كتبت منذ شهور في مكان آخر ثلاث مقالات أحذر فيها من الانسياق وراء وهم التوافق الذي ينادي به البعض من الجانبين الإسلامي والعلماني, وأكدت أنه لا مفر في النهاية من الاحتكام إلي الشعب. واستندت حجتي في ذلك إلي أن التوافق الطبيعي بين الطرفين كان حالة استثنائية, استمرت من25 يناير حتي18 فبراير2011 يوم خطبة القرضاوي في الميدان, وانتهت عندما انطلقت اتهامات خيانة الثورة ضد الإخوان, والتي تطورت إلي حرب إعلامية شاملة مع استفتاء19 مارس. والمشكلة الأساسية التي أدت إلي استحالة التوافق, تكمن في موقف الفريق الذي هيمن طوال ما يزيد علي ستة عقود علي منابر الثقافة والاعلام ومؤسسات الحكم, والذي أغضبه تصويت ما يزيد علي ثلاثة أرباع الناخبين في الاستفتاء باتجاه التيار الإسلامي, وجن جنونه عندما تأكد هذا الاتجاه التصويتي في الإنتخابات البرلمانية. أدي ذلك بأعضاء هذا الفريق إلي الشعور بأن مصر تفلت من قبضتهم, وأنه لا حل إلا بإعادة الإسلاميين إلي الوضع الذي كانوا عليه في عهد مبارك.. مهمشين محظورين معتقلين, ولو بالتحالف مع شيطان الفلول, والاستقواء بالعسكر. هذا الفريق يصر علي أن يتم التوافق بشروطه, وإلا فهو الصراع ووضع العصي في الدواليب. ولذلك نري أعضاءه يبذلون كل ما في وسعهم حتي لا يتحقق توافق طبيعي, وإنما توافق مصطنع يتأتي بالقهر والترويع. عندما يقول أحد أبرز أعضاء الجمعية التأسيسية إن هناك خطوطا حمراء لن نسمح بتجاوزها, وأن علي خصوم الإسلاميين ألا يتوقفوا عن ممارسة الضغوط.. فأي توافق هذا الذي ينتج عن ضغوط تأتي من اتجاه واحد, حيث إن الإسلاميين لا يملكون من المنابر الإعلامية ما يمكنهم من ممارسة ضغوط مماثلة؟ وكيف يتأتي التوافق مع فرض خطوط حمراء, أو مع توجيه السباب إلي الخصم صباحا ومساء في الصحف والفضائيات, أو مع بيان نادي القضاة الذي يهدد و يحذر و لن يسمح, أو مع التهديد بمصائب وكوارث إذا لم يأمر المرشد عددا من الإخوان بالانسحاب من الجمعية حتي يتم اختيار خصومهم بدلا منهم؟ كيف يحدث توافق مع من يتصورون أن علي رأسهم ريشة, ويتجاهلون حقيقة أن الشعب الذي هو مصدر جميع السلطات هو نفسه الشعب الذي جاء بنوابه بهذه الجمعية التأسيسية وفوضها لكي تصيغ له دستورا, إما أن يوافق عليه أو يرفضه؟ كيف يتوافق أعضاء الجمعية مع من يحطون من شأنهم علي المستوي الشخصي, أو مع من يهددون مرارا وتكرارا بالانسحاب, أو مع من يعاملونهم وكأنهم أعداء لمصر, وماذا لو فرضوا هم أيضا خطوطهم الحمراء أو هددوا بالانسحاب أو..؟ هل الجمعية التأسيسية الحالية مثالية؟ قطعا لا. وهل المسودة التي أنتجتها, بها كل ما نتمناه في دستورنا؟ قطعا لا. ولكن التعامل مع هذا الوضع بالتربص للجمعية لإسقاطها, وابتزاز الرئيس مرسي والضغط عليه من أجل إعادة تشكيلها, وتوجيه البذاءات والإهانات لفريق من أعضائها, كل هذا لن يؤدي إلا إلي تطرف الخصم المستهدف وإصراره علي مواقفه, وترسيخ قناعاته بأن ما جري من انقلاب علي الاستفتاء وتآمر علي البرلمان أدي إلي حله, هما ليسا إلا حلقتين في مسلسل يستهدف الوجود الإسلامي ذاته. إني أتمني أن أكون مخطئا, ويتحقق التوافق. غير أن مصر لا تملك ترف إضاعة المزيد من الوقت. ولذلك فإني أري أن مبادرة لم الشمل التي أطلقها رئيس حزب( الحرية والعدالة), مفرطة في السذاجة لأنها تفترض حسن النية لدي الطرف الآخر, والذي تعامل معها كما توقعت بالضبط. فقد اعتبرت هذه المبادرة علامة ضعف من الإخوان, ورغبة في استرضاء التيار العلماني علي أمل تخفيف حملاته الإعلامية ضدهم. ولهذا رأينا السيد حمدين صباحي يشترط من أجل قبول المبادرة اعتذار الإخوان عن أخطائهم وإعادة تشكيل الجمعية التأسيسية, وقرأنا لآخر أنه لابد من تقديم الإخوان خمسة اعتذارات واجبة قبل قبولها. بتعبير آخر, يعتقد هؤلاء أن مصر رهينة في قبضتهم, وأنهم هم, وليس الشعب, أصحاب الوصاية علي الجمعية والدستور. في تقديري أن التوتر والعصبية الباديين في تصريحات كثير من قادة الإخوان, هما نتيجة طبيعية.. أولا للسموم التي تنفثها وسائل التضليل في الأجواء, وثانيا للإحساس بالغدر الذي استحوذ علي الإسلاميين بعد حل البرلمان, وفاقم مخاوفهم من إصرار النخبة العلمانية علي إعادة التيار الإسلامي إلي وضعه السابق قبل الثورة. إن أولئك الذي يشكون من تعنت الأعضاء الإسلاميين في الجمعية التأسيسية, خاصة في المواد المتعلقة بصلاحيات الرئيس, عليهم أن يدركوا أن الإسلاميين من حقهم أن تكون لهم سلطة تحميهم من طغيان واستبداد الأقلية العلمانية, وتردع كل من تسول له نفسه محاولة إعادة عقارب الساعة إلي الوراء. بتعبير آخر, نحن كلنا نسدد الآن ثمن أكبر جريمتين في حق الديمقراطية: وأد أول استفتاء حر في تاريخ مصر, وحل أول برلمان للثورة. وعلينا بالتالي أن نحد من أضرارهما قدر المستطاع, وذلك بالانتهاء فورا من الدستور, والاتجاه فورا إلي الانتخابات. علي الجميع أن يدرك أننا لن ننجز توافقا طبيعيا قبل أن تضع الحرب الإعلامية علي الإخوان أوزارها, وتنقشع سمومها من أجواء الحياة السياسية. ومهما تكن أخطاء الدستور من ناحية الركاكة والإطالة والغموض وغيرها, فإنه يمكن مستقبلا في مناخ سياسي أكثر هدوءا وأقل احتقانا, تعديلها في ظل توافق حقيقي, وليس مفتعلا بالتهديد والابتزاز. لقد تطلب الأمر مائتي عام حتي يصل الدستور الأمريكي إلي صيغته النهائية تعرض خلالها إلي27 تعديلا. وأعتقد أن دستورنا في حاجة إلي فترة زمنية قصيرة نسبيا ينضج خلالها بهدوء ويتطور إلي صيغته النهائية, بشرط أن نتوقف عن تخوين وتكفير بعضنا البعض, وشن الحروب الاعلامية والتنفيس عن أحقادنا الشخصية ضد بعضنا بعضا. أما التمسك بالوصول إلي توافق جعلوه مستحيلا, وبجمعية يريدونها مثالية, ودستور يبغونه كاملا, فهذه أمور غير قابلة للتحقق, يبدو أن هناك من يتمسك بها من أجل أن تبقي الدولة مشلولة بلا برلمان ويبقي رئيسها بلا صلاحيات حتي يفشل. وهذه هي قمة العبث بحاضر مصر ومستقبلها. المزيد من مقالات صلاح عز