عشت في الأهرام أكثر مما عشت في بيتي.. وتشهد جدرانه علي سنوات العمر التي قضيتها فيه.. دخلت الأهرام كما يقول العقاد والشعيرات البيض تتخفين في السواد والآن لا شئ يبدو غير مساحة بيضاء تكسو الوجه الشاحب والجسد المتعب..لم يكن الأهرام مؤسسة عملت فيها سنوات عمري ولكنها قصة حب من طرف واحد فلا شيء في هذه الدار لم يتسلل إلي دمي.. ان عيوني تحفظ ملامح جدرانها وتعرف انفاسي طرقاتها وفي كل جزء من هذا الصرح تبدو سنوات العمر التي امتزجت بأعمار أصدقاء وزملاء فأصبح لنا عمر واحد احتوته جدران هذا المبني العتيق..دخلت الأهرام في عام68 في مبناه القديم ثم جئت في موكب مهيب إلي مبناه الجديد مع كوكبة قادها الكبير محمد حسنين هيكل لأصافح الزعيم جمال عبد الناصر وهو يفتتح الأهرام في مشهد إنساني وثقافي وفكري بديع لم تشهده مصر من قبل ولا من بعد.. وجدت نفسي في رحاب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وزكي نجيب وصلاح طاهر وبنت الشاطئ وإحسان عبد القدوس والشرقاوي ولويس عوض ويوسف إدريس وثروت اباظة ويوسف السباعي والحمامصي.. تعلمت من هؤلاء جميعا ان القيمة تسبق كل شئ وان القلم حجة صاحبه أمام الناس وأمام خالقه سبحانه وتعالي حين يلقاه.. كان من حظي ان شعري وكلماتي وفرت لي حياة كريمة اغنتني دائما عن سؤال من لا يستحق السؤال سواء كان صاحب سلطة أو صاحب مال أو قرار..وتعلمت الكثير شاهدت هيكل الكبير وهو يجمع أوراقه ويرحل بعيدا عن السلطة ليصنع لنفسه أسطورة أخري كاتبا حرا ومفكرا كبيرا.. وشاهدت المثقف الرائع انيس منصور وهو يشكو للرئيس السابق غبن الكتاب ومرتباتهم الهزيلة.. استوعبت الدروس حتي لا أري نفسي لعبة في خريف العمر في يد من لا يعرف شيئا اسمه القيمة ورسالة مقدسة اسمها الكلمة وقد صدقت مع الأيام هواجسي وظنوني.. فقد ودعت بالأمس جزءا عزيزا من عمري وأنا أصافح بقلبي22 كاتبا ومحررا من رفاق الرحلة في الأهرام صدر قرار بالاستغناء عن خدماتهم لتسقط معهم أجمل صفحات العمر ولله الأمر من قبل ومن بعد. المزيد من أعمدة فاروق جويدة