بدا المتهم في قضايا خطيرة مبتسما ومرحا, وكأنه في ضيافة أصدقاء, بينما كان ماثلا أمام قضاة محكمة دولية لمحاكمته بارتكاب جرائم حرب وتورطه في قتل أكثر من ثمانية آلاف من المسلمين في البوسنة في يوليو.1995 واستهل كلامه أمام القضاة, علي نحو غريب, وكأنه قديس وليس شيطانا. إن عليكم أن تمنحوني مكافأة علي كل ما قمت به من أعمال طيبة, بدلا من أن تتهموني.. إنني رجل لطيف ومتسامح, ولست عدوانيا.. فأنا أكتب قصائد, وقصصا للأطفال.. ولم أكن للمسلمين في البوسنة أي كراهية.. فلماذا تحاكمونني..؟ إن عليكم أن تمنحوني جائزة. كان هذا ما قاله رادوفان كاراديتش رئيس صرب البوسنة السابق منذ أيام أمام محكمة الجزاء الدولية في لاهاي.. ولعل نفرا ممن استمعوا لما قال ظنوا أنه ربما أصيب بمرض نفسي, ولم يعد يدرك ما ارتكب من جرائم وحشية في خلال حرب التطهير العرقي والإبادة التي شنتها قوات الصرب ضد أهل البوسنة في الفترة من1992 وحتي.1995 وقد استطاع كاراديتش الهرب عام1995 عندما جري اتهامه بارتكاب جرائم حرب.. وظل هاربا لمدة ثلاثة عشر عاما وتخفي بإطلاق لحيته وانتحال شخصية مختلفة, وادعي أنه خبير في الطب البديل.. ولم يتعرف عليه أحد برغم ارتياده المقاهي. ولم يسقط في قبضة العدالة إلا عام2008, وتم ترحيله آنذاك إلي المحكمة الدولية في لاهاي.. وشرعت في إجراءات محاكمته, وأصر علي أن يتولي الدفاع عن نفسه. وكان كاراديتش قد ولد في الجبل الأسود عام1944 بين أسرة سيئة السمعة, فقد قتل جده أحد جيرانه عندما نشب بينهما خلاف حول الماشية.. أما والده فقد اغتصب إحدي قريباته ثم قتلها, وانتهي به المطاف في السجن, وبرغم هذا السجل الأسود, أحسن أهل القرية معاملة الفتي الصغير حتي غادرها إلي البوسنة لدراسة علم النفس وتمكن من الحصول علي منحة لاستكمال دراسته في أمريكا وصار طبيبا نفسيا. وعندما عاد يعمل في البوسنة, لم يكن مهتما بالسياسة, وظل كذلك, حتي أعاد ميلوسوفيتش رئيس صربيا إحياء القومية المتطرفة في غمار انفراط عقد يوغوسلافيا بعد موت الزعيم تيتو, ومزق بطاقة عضويته بالحزب الشيوعي أمام الجماهير. وركض وكأنه يمتطي جواد الأمير الصربي لازار الذي قتله الجيش العثماني في معركة كوسوفو في القرن الرابع عشر. ولم تجد البوسنة بدا من إعلان استقلالها في مارس1992, علي غرار الجمهوريات اليوجوسلافية الأخري, وعندئذ نصب الصرب كاراديتش رئيسا علي ما أطلقوا عليه جمهورية صرب البوسنة, وكان ذاك إيذانا باندلاع حرب إبادة عرقية ضد أهل البوسنة, وهي حرب وحشية بلغت ذروتها بارتكاب قوات الصرب مذبحة سريير ينستا في يوليو1995, والتي راح ضحيتها أكثر من ثمانية آلاف ضحية. واضطرت أمريكا للتدخل الدبلوماسي, وتم التوصل لاتفاق دايتون للسلام في البوسنة في نهاية.1995 وتلك كانت السنوات الأكثر سوادا في تاريخ أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية, وارتكبت العواصم الكبري إثما عظيما عندما اختارت أن تصمت ولا تتحرك لمنع حرب الإبادة ضد أهل البوسنة. خذور حذركم.. لن يتطوع أحد لنجدتكم مما أنتم فيه من أزمات ومشكلات.. تدبروا أمركم بحسم وعزم. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي