كان الجميع في أوروبا يتعاملون بنقود الذهب والفضة. ومع زيادة الثروة, زادت أوزان النقود, فتحول الجميع بالتدريج لإيداعها في خزانات المرابين مقابل رسوم وإيصالات يتبادلونها في الأسواق. واستسهل الجميع تبادل الإيصالات بالمقارنة بحمل أثقال أكياس الذهب والفضة, تتضائل عددمن يريد استبدال الإيصالات بالذهب المقابل, وانتشر استخدامها. لاحظ المرابون والنخب هذا التطور, فتمادوا في إقراض الناس إيصالات لا تكلفهم سوي أوراق كتابتها بدلامن الذهب, مع احتفاظهم باحتياطي منه لمواجهة أي مسحوبات مفاجئة لم تتجاوز10% من الإيصالات المصدرة فيما عرف بنظام الاحتياطي الجزئي. وكانت هناك مكاتب كثيرة( يجلس صاحبها علي منضدة في السوق بنكا بالإيطالية) تصدر إيصالات محلية( بنكنوت), فنشأت مكاتب أكبر تصدر إيصالات أوسع انتشارا. كما تطورت أغراض الإقراض فأصبحت توجه للتجارة البحرية طويلة الأجل ثم الصناعةوغيرها. وكان هاجس موجات السحب المفاجئة للذهب المودع تؤرق الجميع في ضوء قلة الاحتياطي الذهبي بالقياس للإيصالات المصدرة, فاتفق أصحاب البنوك مكاتب المراباة لنجدة بعضهم عند الضرورة بإقراض قصير الأجل قد لايستمر أكثر من يوم أو يومين بفائدة مخفضة. هكذا اكتشف المرابون والنخب كنزعلي بابا: اطبع أوراقا مزركشة وأقرضها للعامة ليتعاملوا بها فيما بينهم مقابل نسبة تحتسب طالما ظلت هذه الأوراق في حوزتهم. وكان تعميم استخدام هذه الأوراق بدلا من الذهب يتطلب حلفا مع الحكام لفرضها في التعامل والضرائب والرسوم الحكومية, مقابل تلبية كل مطالب النخب الحاكمة وخصوصا شن الحروب لفرض الهيمنة التي صارت تتم مع الوقت بتنسيق كبير بين مصالح تلك النخب المتكتلة لمصلحة الجميع. ولهذا تحالفت النخب الهولندية الإنجليزية مع ويليام ملك إنجلترا وتم إنشاء بنك إنجلترا كبنك للبنوك عام1694( بمساهمة1300 شخص لم تعلن أسمائهم أبدا) يحتكر إصدار هذه الإيصالات الثمينة ويحدد سعر فائدة اقتراضها ونسبة احتياطي الذهب الذي يتعين علي البنوك الاحتفاظ بها ويكون هو من يسرع لإنقاذ البنوك التي تتعرض لأزمات مسحوبات وغيرها. وهكذا ولد الجنيه الإسترليني وغيره من العملات المصدرة مركزيا في بقية الدول القومية الأوروبية وتم فرض التعامل بها. ومنذ ذلك التاريخ, لم يعد من الممكن فصل تطور الدول القومية والإمبراطوريات الأوروبية عن هذه البنوك المركزية. وأصبح من السهل علي الحكومات الأوروبية تعبئة مواردها المادية والبشرية لتحقيق خططها, وأصبح من السهل علي البنوك المركزية صناعة الاحتكارات( بمجرد توجيه قروض الصكوك أو البنكنوت) بالشراكة مع النخب, مع تشغيل العامة. وتحولت البنوك المحلية بالتدريج إلي تكتل يرأسه ويديره البنك المركزي, وظهرت الرأسمالية بمعني تركيز ملكية رأس المال ووسائل الإنتاج. كانت الدول الأوروبية القوية تنشر البنكنوت الخاص بها في مستعمراتها ومناطق نفوذها. وبظهور الإمبراطورية الإنجليزية أصبح الجنيه الاسترليني أوسع العملات انتشارا وبمثابة عملة الاحتياطي العالمي. كما أنشأت لندن ثمانين بنكا مركزيا بنفس الطبيعة والمهام في مستعمراتها ومناطق نفوذها! وبانتهاء الحرب العالمية الثانية, تحولت الصدارة العالمية إلي أمريكا, وورث الدولار مكانة الاسترليني كعملة الاحتياطي العالمي. ومع ازدياد التجارة العالمية والعولمة والتنافس التجاري, قامت أمريكا في عام1971 بالتخلص من قيد احتياطي الذهب. وهكذا انطلقت أمريكا لتغرق العالم بطوفان أوراق تطبعها أو أرقام تكتبها علي شاشات الحاسبات الآلية تستحوذ بها علي ما تشاء من أصول وثروات وسلع وخدمات من الجميع, وتشن علي معارضي هذا الوضع العجيب حروبا يدفع فاتورتها الجميع بالتضخم وتدهور قيمة الدولارات في حوزتهم! ولا أظن أن أحلام الأربعين حرامي مجتمعين كانت لتصل إلي هذا المدي. في عصر العلم والتكنولوجيا, وضعت أمريكا نظاما مركبا ومتطورا للحفاظ علي هذا النظام الاستنزافي: مؤسسات تفرض تفاصيل النظام القانونية والإدارية( البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية) وعلماء يصيغون أسسه كنظريات علمية تدرس في الجامعات علي أنها علم رصين أصبح علماء الرياضيات هم سدنته الذين يفوزون بمعظم جوائز نوبل في الاقتصاد منذ إقرارها, ودارسون يتم تلقينهم هذا العلم المصنوع لايعرفون غيره ليكونوا قادة الفكر وسدنة النظام في بلادهم, ووسائل إعلام مكتظة بخبراء يروجون للنظام بين العامة كوسيلة للتنمية والتقدم واللحاق بالغرب, وسياسة ماكرة لوضع مقاليد الأمور في مناطق النفوذ في أيدي مجموعات فاسدة ومأجورة تطبق النظام بصورة عمياء, وآلة عسكرية هائلة لإرهاب وتأديب غير الملتزمين. ووجد العالم نفسه في وضع عجيب, مما دعي مايكل هدسون أستاذ الاقتصاد لوضع كتاب بعنوان: الاستعمار المثالي يشرح فيه تطور هذا النظام الداهية. ووجد الجميع أنفسهم في وضع عجيب: فهم يتعرضون لنهب دائم لم يسبق له مثيل في التاريخ بواسطة نظام تم بناء الاقتصاد العالمي عليه, بحيث يسبب الخلاص منه دفعة واحدة انهيار النظامعالميا ومحليا. وتتزايد أكوام الدولارات لديهم مقابل استيلاء أمريكا علي ثرواتهم وسلعهم, وتضمحل قيمتها باستمرار بسبب فيضان الإصدار الدائم للدولارات وضخها في العالم. ولم يكن أمامها سوي تحويلها إلي سندات دين خزانة أمريكية متدنية العائد ومتدهورة القيمة ولا يعرف أحد كيف يمكن الحصول علي قيمتها من هذا العملاق المدجج بالسلاح. وجدت أمريكا أن من مصلحتها ابتكار آلية لامتصاص ما يمكن من هذا الفيضان الدولاري من حائزيه في العالم لتفادي احتمال انهياره. وهكذا وجدنا الأسواق المالية تنشأ في كل مكان, وضغوطا تمارس علي الحكومات لتحرير التعامل فيها من كل القوانين التي تحمي الثروات القومية, ولتداول أسهم شركاتها الكبري فيها ولتحرير حركة الأموال إليها ومنها علي وجه الخصوص, بحيث تصبح الثروات القومية الورقية فريسة مباحة لمؤسسات مالية عملاقة تضارب في تلك الأسواق مسلحة بتمويل إليكتروني لاينتهي وحواسب عملاقة وفائقة السرعة بصورة لا أمل فيها للمنافسين المحليين إلا أن يصبحوا مجرد مراكز لتجميع الاستثمارات المحلية تمهيدا للاستيلاء عليها بواسطة تلك المضاربات الساخنة. وأصبحت موجات الاستيلاء علي المدخرات المحلية تحدث دوريا فيما أصبح يعرف بانهيار أسواق المال. ولكن هذه قصة أخري مثيرة تحتاج إلي بعض التفصيل. المزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم