إذا كان العالم بأسره لا يستطيع علي الأقل حتي الآن أن يقول "لا سياسية" قوية في وجه أشد الإمبراطوريات غطرسة في التاريخ، فهل في وسعه أن يقول لها (لا اقتصادية) في شكل طعنة مالية ونقدية قاتلة من حيث لا تدري؟ منذ وصول الغطرسة الأمريكية إلي ذروتها في أفغانستان ثم العراق، ثم تعانقها السافر مع نظيرتها الإسرائيلية في فلسطين، ثم لبنان صارت هذه النوعية من التساؤلات تطرح علي نحو متكرر في كتابات المحللين. فقبل أيام كتب البروفيسور روبرت ويد أستاذ الاقتصاد السياسي في كلية لندن للعلوم الاقتصادية ومؤلف كتاب "ترويض الأسواق" مقالا في صحيفة الهيرالدتريبيون الأمريكية الشهيرة طالب فيها العالم بأسره بوقف الاعتماد علي الدولار كعملة عالمية، ودعا المجتمع الدولي إلي سك عملة جديدة تماما. بالتأكيد لم يكن الرجل يقصد بدعوته هذه معاقبة أمريكا علي موقفها المشين إزاء قضايانا العربية وإنما باختصار استفزه بشدة ما اعتبره ضمنا "ضحك أمريكا علي ذقون العالم" فأمريكا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تري أن من حقها أن تطبع ما تشاء من دولارات بدون حسيب أو رقيب، وبدون أن يكون لهذه الدولارات أي غطاء من الذهب أو غيره من المعادن النفيسة أو العملات الصعبة الأخري. هذا "الحق" دشنه الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون علي عام 1971 كي تطبع بلاده البنكنوت اللازم لتغطية تكاليف حرب فيتنام. وحتي تتضح الصورة علي نحو أدق فان حجم ما تم طبعه من أوراق البنكنوت الأمريكية خلال الفترة ما بين عامي 1950 و1970 ارتفع بنسبة 55% فقط، بينما ارتفعت هذه النسبة الي أكثر من 2000% من عام 1971 حتي عام 2000. آلية للهيمنة وتشكل هذه الكميات المذهلة من الدولارت السبب الرئيسي وراء ارتفاع معدلات التضخم علي سائر أرجاء العالم خلال العقود الثلاثة الماضية. وهكذا تحول الدولار الأمريكي إلي سلاح رئيسي في ترسانة الإمبراطورية الأمريكية، بعدما أصبح عملة الاحتياط الأولي علي العالم. ويقول "ويد" إن أكثر من ستين في المائة من احتياطيات العالم كله من النقد الأجنبي يجري الاحتفاظ بها علي شكل أصول مقومة بالدولار الأمريكي، مثل أذون الخزانة الامريكية، أي أن البنوك المركزية في العالم كله تجعل اكثر من ستين في المائة من غطاء عملتها المحلية عبارة عن دولارات واذون خزانة امريكية. كما ان السواد الاعظم من المعاملات التجارية العالمية تتم بالدولار. واصبح الدولار إحدي آليات الهيمنة الامريكية علي العالم ونتيجة لهذه السياسة قفز حجم اوراق البنكنوت الدولارية إلي اكثر من 2500 مليار دولار هي عبارة عن دين لحاملها دون فوائد للخزانة الأمريكية. ولعل من أخطر القرارات التي اتخذها وزير المالية الامريكي الجديد بن برنانكي بعد فترة قصيرة من توليه مهام منصبه هو التوقف عن كشف قيمة الدولارات التي تطبعها بلاده، فالمحافظون الجدد الجاثمون علي صدر البيت الابيض مقتنعون تمام الاقتناع بأن القوة العسكرية هي اهم غطاء لعملتهم الوطنية، إلا ان هذا الغطاء بدأ يتقلص مع توالي النكسات الامريكية في العراق وافغانستان، كما اصبحت الولاياتالمتحدة اكبر مستهلك في وصارت تستورد أكثر مما تصدر وول عجزها التجاري مع العالم الخارجي خصوصا الصين إلي مستويات قياسية تاريخية، كما اصيبت الميزانية العامة للدولة بعجز تاريخي مزمن كسر حاجز الخمسمائة مليار دولار بسبب تكاليف الحروب، واضطرت الادارة الامريكية إلي طبع سندات او اذون خزانة لتغطية هذا العجز، وهكذا اصبحت اكبر قوة عسكرية في العالم هي اكبر دولة مدينة في العالم. فاجمالي الديون التي يرزح تحتها الاقتصاد الامريكي حاليا يتجاوز بكثير ازمة الديون في فترة الكساد العظيم خلال الثلاثينيات مني القرن الماضي. وطبقا للاحصائيات الرسمية لبنك الاحتياطي الاتحادي فإن القيمة الاجمالية لديون الولاياتالمتحدة تصل إلي 34 تريليون دولار، وهو ما يعادل ثلاثة امثال حجم الناتج القومي الاجمالي، معني هذا ان كل مواطن أمريكي بما في ذلك الاطفال مدين بنحو مائة وخمسة وعشرين ألف دولار، كما تضاعفت قيمة الديون الاستهلاكية الشخصية - باستثناء الرهن العقاري للمنازل - منذ 1994 لتصل إلي 4.9 تريليون دولار مسجلة بذلك رقماً قياسيا، وهذا يعني 37 ألف دولار لكل فرد أمريكي، نفس الوضع ينطبق علي دين المؤسسات الذي يسجل رقما قياسيا بدوره وصل إلي خمسة تريليونات دولار بينما وصلت ديون الحكومة الاتحادية إلي 7 تريليونات دولار وهو رقم قياسي ايضا.