تواجه الدول خلال مراحل تطورها السياسي بعض الأزمات التي غالبا ما تكون ضرورية لتصحيح وتعديل مساراتها أو لإعادة بنائها, ويتوقف الأمر في هذا الشأن علي قوة الدفع التي تقف من وراء عملية التغيير والتحول. ولا شك أن الثورة التي حدثت في مصر في الخامس والعشرين من يناير2011, والتي سرعان ما تحولت من مجرد هبة شبابية محدودة الي ثورة شعبية عمت أرجاء الإقليم المصري, وأضحت أنموذجا للثورات الشعبية إقليميا ودوليا, إنما حدث ذلك بقوة الدفع الشعبية الهائلة التي أيدت ودعمت انطلاقة الثورة وحرصت علي استمراريتها وحمايتها حتي تتحقق الأهداف والطموحات التي قامت من أجلها. إن الفرصة المتاحة في الوقت الراهن أمام عملية إعادة بناء الدولة المصرية هي من الفرص النادرة التي يجب أن يتم توظيفها واستثمارها بالطرق وبالأساليب وبالأدوات والآليات المناسبة, من أجل إعادة التأسيس للدولة المصرية التي تتناسب حضارتها وتاريخها وبما يستحقه شعبها العظيم, وبما تستأهله مكانتها الإقليمية والدولية السابقة والحاضرة والمستقبلية, وليست الدولة المصرية في طموحها وتطلعها هذا بأقل من دول عديدة استطاعت أن تنجح في عملية إعادة البناء, ومنها الدولة اليابانية والدولة الصينية علي سبيل المثال. وبالتالي ففي إطار التفكير في أية عملية بناء ينتوي ويتحرك المصريون من أجل تدشينها, يتوجب التوقف والتريث والتأمل أمام كل مرحلة, وإذا كان المصريون قد نجحوا في أولي تلك المراحل والمتمثلة في النوايا الحسنة والصادقة في التغيير واقتران ذلك نجحوا بالتحرك نحو هدم النظام القديم واستكمال عمليات الهدم للأركان المتصدعة من نظام الحكم البائد ومؤسساته وتطهيرها كمقدمة لإعادة الميدان لعملية إعادة البناء المستهدفة, فإن المرحلة الراهنة والمتمثلة في التحديد لأية دولة يمكن بناؤها, تتطلب حتما مساعي وجهودا دءوبة في التحديد للمكانة المرتقبة لتلك الدولة بين دول العالم, وتحديد الأهداف والأولويات القريبة والمتوسطة والبعيدة المدي التي تتناسب مع طبيعة الدولة الجديدة والمستهدفة, ثم يلي ذلك البدء في عملية البناء الأساسية من خلال توظيف الطاقات والقدرات والإمكانات المتاحة والمتوقعة, وبالأساليب والأدوات الممكنة والمستهدفة التي يمكن أن تسهم في وضع تلك الأهداف موضع التنفيذ الفعلي, وذلك في ظل وجود نظام متميز وفعال لإدارة الدولة المصرية, يكون قادرا علي القيادة وقادرا علي العطاء, وقادرا علي النجاح, وقابلا للمحاسبة والمساءلة. عملية بناء الدولة المصرية بعد الثورة يجب أن تتضمن تحولا سياسيا ناجحا, وهذا بدوره يتطلب توقفا كليا للصراعات السياسية فيما بين القوي المختلفة, والانشغال التام بالتأسيس السليم والمدروس للدولة الجديدة ذات الطابع الديمقراطي. ابتداء من وضع دستور دائم جديد, والتأسيس لمؤسسات حكومية وغير حكومية جديدة, وتفعيل حقيقي للسياسات والسلوكيات والممارسات, وتفعيل عمليات المحاسبة والمساءلة, والتقييم والتقويم الذاتي المستمر, وفي حين يعد هذا من الأمور المهمة, فإنه قد يكون من الأمور المتناقضة أحيانا أخري, خصوصا إذا ما ابتعدت الأهداف والغايات عن مسارها الحقيقي وتركزت علي مجرد توقف الصراعات وبدون تعديل للبيئة السياسية, حتي وإن كان بناء الدولة يتعهد من خلال التركيز علي تقنية الانتخابات والبناء المؤسسي أو بناء القدرة, والتي يمكن أن يكون مآلها الفشل. حيث إن الدولة الناتجة يمكن أن تتسم بظاهرتين الطابع الإجرامي للدولة بمعني إعادة إنتاج للنظام الحاكم الفاسد, واستنادها في شرعيتها لمجرد الانتخابات بغض النظر عن مدي حريتها ونزاهتها. لكي يكون بناء الدولة مستمرا بعد الثورة يجب أن يساعد ذلك في تحويل المجتمع من مجتمع يلجأ الي العنف الي مجتمع آخر يلجأ الي الوسائل السياسية لتسوية المشكلات والصراعات. والمشاركة في هياكل الحكم الديمقراطية, وكذلك الشعور بمغانم التغيير والتحول السياسي بعد الثورة وخصوصا لدي القاعدة الشعبية الواسعة وبالذات فيما يتعلق بإشباع حاجاتهم الأساسية سواء تعلق الأمر بالمأكل أو بالمشرب أو بالملبس أو بالمسكن أو الزواج حيث يفترض أن يكون هذا أفضل ضمان للسلام الداخلي طويل المدي, وهكذا فإن بناء الدولة يجب أن يساعد علي تطوير هياكل جديدة للحكم ولقواعد اللعبة السياسية وللسياسات وللممارسات الفعالة التي يجب أن تكون متسقة مع الديمقراطية. بمعني أن هياكل الحكم وما ينتج عنها من سياسات وسلوكيات وممارسات يجب أن تخاطب وأن تتغلب علي المظالم التي أدت الي اشتعال الثورة, وبالتالي فإن تصميم العمليات وهياكل الحكم التي تسعي لتحقيق هذه الأهداف مسألة تنطوي علي قدر كبير من التحدي للإرادة الشعبية المصرية. ودائما فإن ضمان المشاركة الشاملة والكبيرة في العملية البنائية يؤدي الي التوافق ودفع العملية السياسية, وتعظيم الشرعية والاستمرارية لبناء الدولة. وعلي العكس, فإن عدم الأخذ بذلك يؤدي الي قيام الديمقراطيات الضعيفة بشكل كبير وعلي المدي الطويل, وهو الأمر الذي يفرز دولا ضعيفة وهشة, لاتقوي علي القيام بالحدود الدنيا من وظائفها ومسئوليتها علي المدي القريب أو البعيد.