الموهبة كالفضيحة, مقولة أطلقها الشاعر السوري الراحل محمد الماغوظ ولا أظنها تنطبق علي احد كما انطبقت علي رسام الكاريكاتير الراحل أحمد حجازي الذي توفي قبل عام وشأن كل موهبة كبيرة ظل لدي حجازي بعد موته الكثير من الانتاج الذي تتجدد ولادته ويكسبه الزمن معاني جديدة. وبينما يتوجه أصدقاء حجازي وعشاق فنه الليلة الي قاعة خان المغربي بالزمالك لحضور أول معرض استعادي لاعماله أخترت أن اتوجه للقاعة نفسها ولكن لغرض مختلف, فمنذ سنوات وأنا اسعي لاقناع صاحبتها السيدة سلوي المغربي برواية حكايتها مع حجازي, الذي اختارها زوجة له وعلي الرغم من انهما انفصلا بعد زواج استمر لنحو23 عاما تخللته اوقات انقطاع الا انها ظلت تحتفظ له بمكانة لم تهتز وهي الان عندما تتحدث عنه, تلمع عيونها بفيض من الولع يصعب تفاديه. وطوال سنوات ظلت سلوي تعالج ولعها بصمت ولم تشأ الكشف عن اسباب الانفصال التي ظلت في ركن بعيد من الذاكرة كأنه طريق الي الالم لا تود السير فيه. اعطت سلوي لعلاقتها مع حجازي طاقة من الغموض بغرض وحيد هو احترام ما كان فيها من عطاء نبيل, كأن الزمن صنع معها المسافة التي جعلت من النظر الي سنوات العيش معه, طريقة لاكتشاف الجمال في لوحة لا يهزمها الغبار. والي جانب صمتها وحرصها علي الاعتزاز بذلك التاريخ احتفظت سلوي بأوراق ورسائل من حجازي كتبها في سنوات مختلفة ولم يكشف عنها من قبل, وهذه الرسائل تعطي الكثير من العلامات التي تفسر المسار الفني لصاحبها من ناحية ومن ناحية أخري تقدم مفاتيح لتناول عالمه الانساني الخصب, فهي رسائل تؤرخ لعلاقة حب مع امرأة ظلت واحدة لا تتكرر في حياته وكذلك تشير الي غرامه بالعمل مع اللوحة والزهد في التعاطي مع ما تجلبه من أثر. وفي واحدة من تلك الرسائل التي نعرضها اشارة مهمة الي ايمانه ب الزهد وهي الكلمة المفتاح التي تلخص مسيرة فنان شبه النقاد رسومه بأعمال سيد درويش في الموسيقي, إذ إنها استندت إلي روح مصرية خالصة, سواء في شخوصها أو في موضوعاتها, الأمر الذي يجعل منها عنوانا دالا علي مرحلة مهمة في تاريخ مصر امتدت منذ نهاية الخمسينات. (1) ولد حجازي في مدينة الإسكندرية عام1936 وعاش شبابه في مدينة طنطا( دلتا مصر), وتفتح وعيه علي الحياة من خلال والده الذي كان يعمل سائق قطار. كان دائما يأتي اليه محملا بالحكايات التي يراها الاب من شرفات القطار السريع وربما علي هذا النحو اختار حجازي طريقته في النظر الي العالم. تبدو حكاية سلوي المغربي مع حجازي وكأنها فيلم بالابيض والاسود لا يزال محتفظا بسحر معتق. وساعد علي ذلك النبرة الدافئة التي تملأ صوتها وهي تقول قبل تخرجي في قسم اللغة الانجليزية شدني عالم الصحافة وذهبت الي الاستاذ محمد حسنين هيكل وطلبت منه العمل في الاهرام وبالفعل ضمني الي الفريق الذي كان يعمل مع الراحل كمال الملاخ ويحرر الباب الشهير بدون عنوان, لكني بعد فترة من العمل وجدت نفسي مبهورة أكثر بالمناخ الفني الذي كان يميز مؤسسة روزا اليوسف وهناك تعرفت علي حجازي الذي كان قد جاء الي روز اليوسف بعد سنوات دراسته في الفنون الجميلة وقبل ان تكمل الحكاية أخرجت لي الخطاب الذي كتبه حجازي الي أسرته البسيطة في طنطا ليعلم أهله بقراره المجيء الي القاهرة لا اظن ان هذه الرسالة التي يكشف عنها لاول مرة تقول غير شيء واحد وهو ان حجازي كان بداخله أيضا كاتب نائم لم يستقيظ الا في مرات قليلة كان يترك فيها الالوان ويمسك بالقلم (2) مع الاسطوات ترك حجازي هذا الخطاب وجاء الي القاهرة ليعمل لكن النقلة الكبري في حياته جاءت عندما عمل مع سامي داوود و الفنان الكبير حسن فؤاد في مجلة التحرير, التي كانت من اولي المجلات التي اصدرتها ثورة يوليو لتبشر بخطابها السياسي إلي أن رشحه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين للعمل في مجلة صباح الخير بمجرد تأسيسها. وهناك ظل حجازي يرسم الي جوار من صاروا بعد ذلك الأسطوات الكبار من أمثال صلاح جاهين ومحيي الدين اللباد وبهجت عثمان ورجائي ونيس وصلاح الليثي وجورج البهجوري, و الي جوار هؤلاء تميزت ريشته ببساطة الأسلوب والموضوع. كما جاورت رسومه كتابات يوسف إدريس وصلاح عبدالصبور وفتحي غانم وإحسان عبدالقدوس وكامل زهيري ورجاء النقاش وأحمد عبدالمعطي حجازي وعلاء الديب والشاعر فؤاد قاعود. جاءت سلوي المغربي الي روز اليوسف كما قالت لي لتنعم بالعيش الي جوار هؤلاء لكن كيف استطاعت أن تقنع حجازي ذو المزاج الخاص بالزواج ؟ وتجيب في روز اليوسف كنا نقضي معا الساعات الطوال, نتحدث حول كل شيء وحجازي لمن كان يعرفه كان شخصا صموتا نادر الكلام لكنه قوي الملاحظة في جملته شيء من القنص, فهي جملة حادة وساخرة تشبه ما كان يرسمه ولم يكن يتحدث الا لقول شيء مهم يخفي عن الآخرين وهذه سمة لفتت نظري ونحن نمشي في طرقات روزا اليوسف التي سماها محمود السعدني جمهورية الكلام لان كل كتابها كانوا من اصحاب الرأي الكبار. وتستطيع ان تتبين هذه الروح جيدا وانت تقرأ الخطاب الثاني من بين الأوراق التي اخرجتها لي سلوي بعد سنوات من الحجب وهو خطاب غرامي كتبه لها في يناير من العام1960 وقبل زواجهما بعامين ازدهرت علاقة سلوي وحجازي بسرعة وبأمل الحفاظ عليها قررت سلوي مغادرة قطار الصحافة والنزول بسرعة بعد ان ادركت ان الزحام لا يضيف لعلاقتها معه أي شيء بل قد يأخذ منها. عندما اتفقا علي الزواج اقنعت سلوي والدها وعائلتها أنها ستتزوج من فنان لا يملك الا موهبته وبالتالي علي الاسرة الا تبالغ في شروطها, بل عليها الا تطلب شيئا أبدا ولذلك جاء حجازي الي البيت والطريق ممهدة تماما ووافق الاب تحت ضغط ابنته وتزوجا في9 ديسمبر من العام1962 وشهد علي عقد القران صديقه اسحاق قلادة الذي رافقه في رحلة الخروج من طنطا. دبرت سلوي كما قالت لي بيتا مريحا واشترت مع حجازي اثاثا مستعملا لكنهما نجحا في اعادة تشكيله ليكون لائقا ببيت يسكنه فنان اللافت ان الاوراق والرسائل التي احتفظت بها سلوي المغربي لفترة تقترب من نصف قرن كلها تقول أن علاقة الحب تحررت من قيد الزواج وتحولت الي علاقة حوار حتي عندما اختارت سلوي ان تغادر الي لندن بحثا عن اسباب افضل للعيش وفي هذه الخطابات التي وجهها حجازي من عواصم كثيرة يمكن تبين أسباب أخري للحب ففي خطاب بديع كتبه لها بعد رحلة زار فيها بغداد وكردستان بصحبة الكاتب الراحل يوسف الشريف الذي كان محررا للشئون العربية في روز اليوسف وهو خطاب ترجح المغربي ان يكون قد كتبه نهاية الستنيات او اوائل السبعنيات خلال حكم الرئيس عبد السلام عارف للعراق. ويروي حجازي فيه حلما سورياليا فذا يشير ضمن ما يشير اليه بخلاف موهبة حجازي في الرسم لموهبة فريدة في الكتابة, ربما قادته من حيث لا يدري الي الكتابة والرسم للأطفال, فالروح التي ينقلها الحلم الذي يرويه لم تكن الا لطفل كبير.