علي عكس جائزة نوبل الأدب التي تبدو عبر تاريخها ذكورية الهوي في اختيار الفائزين من أصحاب القلم, تحتفي جائزة بوكر الشهيرة للرواية كثيرا بالأديبات. وهاهي تنصب الكاتبة البريطانية هيلاري مانتل أميرة للرواية هذا العام, لتكون أول امرأة وأول بريطانية تفوز بتلك الجائزة مرتين, بعد الروائيين جي ام كوتزي الجنوب أفريقي المولد وبيتر كاري الأسترالي. الجائزة هذا العام فازت بها عن رواية أخرج الجثث وهي الجزء الثاني من روايتها التاريخية المسلسلة عن قصة حياة السياسي البريطاني المعروف توماس كرومويل. كرومويل يبدو تميمة حظ هذه الروائية الستينية, فقد فازت بالبوكر عام2009عن رواية وولف هول أول رواية في ثلاثيتها عن كرومويل. النقاد يقولون إن مانتل استحقت الجائزة لأنها أفضل الروائيين الحاليين استخداما لمفردات وعبارات الإنجليزية.. ولكن لم يكن هذا هو السبب الوحيد. فكثير من كتب المؤلفين تشبه بعضها بعضا, إما لأن الكاتب لا يستطيع أن يكتب إلا بأسلوب واحد, او أنه لا يريد أن يكتب الا بأسلوب معين, او أنه يخشي إن حاول استخدام أسلوب جديد ان يفقد قراءه الذين كسبهم في كتبه السابقة.. وهو خوف مبرر. لكن هيلاري مانتل التي تقول عن نفسها: لو عاد الزمن بي كنت لأغامر أكثر لو لم يكبحني كثيرا هذا الهوس بالكمال, ولبدأت عادة الكتابة اليومية في الصباح الباكر منذ زمن.. كان هذا كفيل ربما بإسكات الناقد الذاتي الذي يسكنني قليلا لا تفعل أقل من مغامرة أن تعيد اختراع نفسها في كل رواية. كان من السهل عليها ان تكتب وولف هول ثانية فقد كانت سلسلة من أجزاء, ولم يكن أحد لينتقد ذلك وكل من قرأوا وولف هول أحبوها, لكنها لم تفعل, فقدكتبت صعود الأجساد مختلفة تماما. كانت وولف هول رواية تقليدية رائعة بكل الثراء واتساع الافق, والعمق, حيث كانت تحكي عن فترة تمتد لاكثر من ثلاثين سنة وكثير من حياة كرومويل, من الطفولة البائسة إلي قوة منتصف العمر, وتحكي عن تحولات تاريخية كبري.. من صعود مارتن لوثر كينج لانشقاق انجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية.. أما روايةا أخرج الجثث فتكاد تكون مسرحية.. وهو ما يتسق تماما مع ما عبرت عنه مانتل مؤخرا في حوار صحفي قائلة: كنت اود لو كتبت المسرحيات ايضا فانا اشعر الان اني مسرحية بالأساس لأني أبقي بعيدة عن الشخصيات التي أخلقها وأوجههم وكأنهم ممثلون. تبدأ رواية أخرج الجثث حيث انتهت روايتها السابقة, فالملك هنري الثامن ورئيس وزرائه توماس كرومويل ضيوف علي عائلة سيمور في وولف هول. والملك يحظي بلحظات خاصة مع جين سيمور, ويقع في غرامها. أما زوجته الحالية الملكة آن بولين فقد فشلت في إنجاب الوريث له, وقد بدأت شائعات خيانتها له تنتشر. فيبحث الملك عن وسيلة للتخلص منها ليتزوج جين سيمور. ولأن آن بولين وتوماس كرومويل يدينان بموقعيهما لبعضهما البعض, فإنهما يتحولان إلي خصمين عندما يحاول كرومويل أن يجد حجة مشروعة ليخلص الملك من آن بولين, فيقوم السياسي المحنك باستغلال سقوط آن الأخلاقي ليسوي حسابه مع أعدائه السابقين. الرحلة إلي عالم الرواية بدأت بظروف عائلية غير مستقرة وشخصية مثيرة.. تقول مانتل عن طفولتها: عندما كنت صغيرة لم أكن أريد ان أصبح كاتبة لكني كنت أريد أن أصبح شيئا مهما. لم اتواءم مع المدرسة أبدا كنت دائما اشعر اني اكبر من أقراني واقرأ بنهم شديد. وعندما كنت في العاشرة أهدتني أمي الأعمال الكاملة لشكسبير. فاستغرقتني تماما.. ثم تغير كل شيء. انفصلت أمي عن أبي وانتقلنا مع أمي الي بلدة صغيرة وغيرنا أسماءنا. وبدأت اتصرف وكأنني عالمة أنثروبولوجيا, أدرس هؤلاء الناس من الطبقة المتوسطة في بلدتنا الريفية الجديدة وأخرج بنظريات حولهم. وصارت تلك عادة أثيرة لدي, في سيري اليومي الطويل الي المدرسة كل يوم, اصف لنفسي الأشياء من حولي, وأحاول أن أجد دائما الكلمات المناسبة تماما للوصف. حكت هيلاري مانتل عن مشوارها مع الإبداع الذي بدأ بمرض ظنه الأطباء نفسيا, وعالجوه بأدوية المرض النفسي حتي تمثل الألم لها إبداعا سويا.. في العشرينيات من عمري كنت في ألم مستمر بسبب مرض لم يفلح الأطباء في تشخيصه في حينها.. كان الألم مستمرا حتي لم يكن يبدو لي أن هناك أمل في الشفاء, قررت حينها في أوج وجعي أن ما احتاجه الآن هو عمل جديد وتحديدا الكتابة, فهو عمل يناسب المرض. فتركت عملي بمجال الخدمة الاجتماعية وعملت بائعة ملابس في أحد المحال لأتفرغ في المساءات لكتابة رواية تاريخية طويلة عن الثورة الفرنسية( مكان أكثر أمنا), وعندما حصل زوجي علي عمل في بوتسوانا أخذت معي كتابي..ما زلت أذكر كيف كنت أحاول نسخ ما كتبت بسرعة في نسخة إليكترونية منقحة قبل الرحيل لآخذها معي.. كنت وكأنني أسابق مرضي.. أسابق الوجع. أسوأ لحظة مرت بها فكانت مع إنهاء أول رواياتها, وكانت تتعافي من الجراحة وتم رفض الرواية من قبل دار النشر.. شعرت وقتها أنني انطلقت خارجة من باب مفتوح لأفاجأ بجدار من الطوب أمامي يسد الأفق وارتطم به. لكني حتي في تلك اللحظة كنت مصممة علي أن أخرج روايتي للنور ذات يوم. في حين كانت أفضل لحظاتها يوم غادرت مدينة جدة مع زوجها الذي عمل هناك كجيولوجي لمدة أربع سنوات.. تقول مانتل: الكتابة عندي مزيج عجيب من الحب والكراهية, حالة أبدية من التوتر الذي لا يقر.. فالكتابة بشكل ما تشبه التمثيل والكتاب تمثيلية شاسعة يقوم الكاتب فيها بتمثيل كل الأدوار. لذا فليس غريبا أن يسقط من الإعياء مع نزول الستار. عندما بدأت هيلاري مانتل الكتابة عن كرومويل كانت تنتوي ان تكتب رواية واحدة, لكن وولف هول ظلت تطول حتي أدركت أنها تحتاج إلي جزء ثان. ثم كان يوم كتبت فيه مانتل المشهد الذي تم فيه إعدام آن بولين في رواية صعود الأجساد, وكان زوجها جيرالد يجلس في الغرفة المجاورة, فجاءته ووقفت أمامه في توتر وشيء من الخوف.. فاحتواها بين ذراعيه وكانت ترتجف. قالت له انها لا تعرف ماذا تفعل وأنها تحتاج إلي مساعدة. فقد كانت تعتقد انها أنهت كتابها دون أن تقصد ذلك. وهو شعور قد يكون مرعبا وكأنها وهي تكتب مشهد نهاية آن بولين كتبت نهاية روايتها.. وطلبت من زوجها أن يقرأ الكتاب ليري إذا ما كانت أنهته أم قتلته.. وقبل أيام فقط جاءتها الإجابة مع شيك بمبلغ80الف دولار هي قيمة جائزة بوكر.