لاشك أن إقامة أكاديمية للفنون بمصر كان من المشروعات الحضارية العملاقة التي تهدف الي بناء وجدان الإنسان, المصري المتحضر, حيث إنها كانت استشرافا لآفاق جديدة وبعيدة تعتمد علي فنون تعبيرية, بعضها كان جديدا غير معروف بل لعلها مثلت الرسالة العظيمة لأداء وزارة الثقافة, رسالة تقتضي وفرة هائلة رفيعة المستوي من القدرات والإمكانات البشرية, وتتطلب نوعية خاصة من العمل الفني للأفراد الذين يكتسبون الي جانب العلم والمعرفة ثراء في الموهبة, وسعة في القدرة, وجدية في العمل.. هذا الي جانب حسن الأداء, وذكاء التناول, وسلامة القيادة.. مع تخصص عميق في واحد من فروع الآداب والفنون والفكر, وهي تحديات واجهت الأكاديمية غداة انشائها, خاصة وهي تتلمس الطريق الصحيح لوضعها العلمي غير غافلة عن أساس هدفها الفني, في إطار التعليم الجامعي السائد, دون أن تطغي العناصر النظرية فيها علي الجانب الفني الإبداعي, وأن تتخطي مرحلة نقل الفنون الغريبة علي التربة المصرية, الي مرحلة التوفيق بين الملامح المميزة للشخصية المصرية والعربية, بلوغا الي الهدف الأساسي وهو استنباط الوسائل المؤدية الي قيم فنية أصيلة ومبتكرة, في سياق ثقافي وحضاري لا يتجاهل الماضي, ويتعامل مع الحاضر, ويعمل من أجل المستقبل, ولذلك رأي منشؤها الدكتور ثروت عكاشة من خلالها أنه لا معدل ولا مناص من رسم سياسة ثقافية طويلة الأمد لإعداد الأفراد الذين سيضطلعون بالعمل الفني أو ادارته في المستقبل, هذا العمل يقتضي الأناة والاتقان مع الجهد المتصل.. إذ لايمكن أن يتم أي إنجاز ثقافي ضخم مثل الأكاديمية دون أن يؤسس علي دعائم راسخة من التخطيط, ولهذا ولغيره لم تمثل هذه الأكاديمية بالنسبة لوزارة الثقافة نقطة البداية فحسب, بل لعلها مثلت حجر الزاوية لثورة يوليو1952 في سعيها الدائم لإيجاد الإنسان الجديد, مستهلة ذلك في اختيار فريق من رواد الفنون في مصر كانت مهمتهم إيجاد القواعد والأسس التي تنهض عليها معاهد الأكاديمية وقتئذ, وهي المعهد العالي للموسيقي ومعهد السينما ومعهد الباليه, ومعهد الفنون المسرحية, وصدر القرار الجمهوري رقم1439 بإنشاء هذه المعاهد الأربعة, لتبدأ الدراسة فيها في اكتوبر1959 في أماكن مؤقتة ومتفرقة. ولم تتوقف عمليات الإنشاء والتشييد, التنفيذ والتطوير منذ خمسين عاما, بل استمرت لاستكمال هذا الصرح العظيم, وتضاعفت علي يد الفنان فاروق حسني وزير الثقافة, حيث كان هناك المزيد من البناء والتشييد, التطوير والتجميل, حتي صارت الأكاديمية علي النحو الذي تراها عليه الآن كأكبر وأعظم معلم أكاديمي متخصص في الفنون في الشرق الأوسط وإفريقيا بما تضمنه من معاهد وفروع معرفية متخصصة ومتعددة, تطلبت المزيد من المعاهد الأخري لتمد مصر والأقطار العربية والأمم الإفريقية والآسيوية بالعديد من الكوادر الفنية المسلحة بالعلم والموهبة, وبهذا المعني يذهب المرء إلي إن رسالة هذه الأكاديمية تتجاوز مثيلاتها في الجامعات والأكاديميات المصرية الأخري, حيث أصبحت تتخطي المحلية بمصر الي الإقليمية في الأقطار العربية, وتتجاوز ذلك الي الدائرة العالمية حيث تغذي الأمم الإفريقية علي اعتبار أنه ليس لها نظير في هذه البلدان, الي جانب ذلك فإنها تمثل صرحا فنيا وعلميا متميزا في حياتنا الثقافية بما تضم من رؤساء وعمداء وأساتذة وإداريين وطلاب, حتي يمكن القول إن هذه الأكاديمية قد لا تكون جامعة بالمعني المعروف للجامعات, ولا مجرد مجموعة من المعاهد الفنية المتفرقة, كما أنها لا تمثل برجا عاجيا تنعزل فيه النخبة المثقفة للتحليق في آفاق بعيدة عن واقع المجتمع واهتماماته, كذلك لا يمكن أن تتناقض مع الحراك الاجتماعي إذ أن كيانها ينبع مع تفاعلها مع كل ما في المجتمع من قيم انسانية أصيلة هي باختصار معني قبل أن تكون مبني, معني يلتقي فيه العلم والفن لتحقيق المتعة الفنية الراقية. ولعل هذه المباديء وغيرها يعمل من أجلها رئيسها الحالي الدكتور سامح مهران, حيث يترجمها الي أعمال وإنجازات وهو ما يمكن مناقشته في مقال تال.