علي الرغم من أني خريج هندسة, فإنني مررت بتجربة ثرية مع وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية لا أظن أن إعلاميا أو صحفيا من خريجي كليات الإعلام مر بمثلها, إلا ربما قلة قليلة. هذه التجربة, مع ما رأيته رأي العين بما فعله ويفعله الإعلام الصهيوني بالعقل الأمريكي خاصة والغربي عامة في قضايا مثل فلسطين والبوسنة والعراق, خلقت يقينا في وجداني بأن الإعلام سلاح خطير, يمكن أن يكون أداة للنهضة والتعمير, أو أداة للهدم والتخريب. وما رأيناه منذ خلع مبارك في الصحف والفضائيات يؤكد للأسف أن الوضع الثاني هو المترسخ الآن في مصر. لن أتحدث عن حملات التخوين والشيطنة التي انطلقت بعد عشرة أيام من خلع مبارك ضد الإخوان المسلمين, أكبر فصيل سياسي في مصر. لن أتحدث عن الكم الهائل من البذاءات والشتائم والأكاذيب التي تنشر وتبث منذ عشرين شهرا في عدد من الصحف والفضائيات. ولكني أتحدث عن الفصل الأخير من مهازل الإعلام الكذوب, وهي قضية رحيل النائب العام, التي كشفت حجم النفاق الذي تردي إليه نسبة غير قليلة من العاملين في مجال الإعلام.فقد كتب وتحدث كثير من الشامتين عن هزيمة مرسي, ظنا منهم أنها نهاية الرئيس. وقالوا إنها الهزيمة الثانية له.. مرة بالتراجع عن قرار إعادة البرلمان, ومرة بالتراجع عن إقالة النائب العام. والحقيقة أن الطرف الذي هزم في المرتين كانت الثورة, أو مصر الثورة, لأن القضية الحقيقية في المرتين تم التعتيم عليها وتتويهها عن عقول الناس, حتي يسهل تشويه الحقائق وتلبيس الأمور عليهم, وذلك لصالح أجندة سياسية تخدم أغراض الكارهين لوجود الإسلاميين علي الساحة. في المرة الأولي كانت القضية الحقيقية هي أن محكمة عينها الرئيس المخلوع, قررت ليس فقط حل أول برلمان للثورة دون اعتبار لحقوق30 مليون ناخب يمثلون الشعب الثائر, وإنما أيضا قررت أن تتابع تنفيذ هذا الحكم المتجاوز لاختصاصها, في واقعة وصفها كثير من القضاة أنها غير مسبوقة. القضية الحقيقية هي أنه عندما رفض مبارك تنفيذ حكم سابق للمحكمة نفسها, علقت المحكمة علي ذلك بأنه قرار سيادي.. أما قرارات الرئيس مرسي, فهي ليست كذلك. القضية الحقيقية هي أن حكم الحل صدر في توقيت يوفر للمجلس العسكري مبررا للاستمرار في الحكم بعد30 يونيو, وأن أحد أعضاء المحكمة ظل علي مدي شهور يتنقل من فضائية إلي أخري, مشاركا في الحرب الإعلامية علي التيار الإسلامي, وهو ما يؤكد الخصومة الشخصية مع أغلبية البرلمان الذي جري حله. كل هذه الحقائق جري تهميشها أو التعتيم عليها حتي تتحقق هزيمة مرسي.. بينما الحقيقة هي أن الهزيمة كانت لمصر الثورة, التي حاول مرسي الانتصار لها, فتصدي له الثورجية( أي من يدعون أنهم ثوار) وتحالفوا مع رجال مبارك علي أمل إسقاط عدوهم المشترك. في المرة الثانية, كانت القضية الحقيقية هي تعاطف الرئيس مع أهالي شهداء الثورة بسبب أحكام البراءة في قضية موقعة الجمل, ومحاولته تخفيف الاحتقان المتزايد في الشارع. ورأي مرسي أن هناك فرصة لتوفير مخرج آمن وكريم للنائب العام, المغضوب عليه منذ بداية الثورة, كأحد أهم أعمدة نظام مبارك. ما فعله الرئيس مع النائب العام لا يتجاوز ما فعله مع المستشارين مكي, حيث عرض علي كل منهما منصبا. لكن النائب العام رفض قبول المنصب الجديد, وهذا حقه. وكان المفروض أن ينتهي الأمر عند هذا الحد, ولكن هيهات أن يفوت الثورجية, أو تترك الصحف والفضائيات, هذه الفرصة تضيع دون استغلالها للكيد للرئيس وجماعة الإخوان. وللمرة الثانية يتحالف الثورجية مع رجال مبارك لتتوه القضية وتشوه الحقائق.. وانطلقت اتهامات إهانة القضاة والاعتداء علي استقلال القضاء, وسمعنا من يصف النائب العام ب الأسد الجسور, وسمعنا النائب العام نفسه يعلن استعداده للاستشهاد من أجل القضاء, بينما عدد كبير من القضاة ملتفون حوله. ولكن مالم يشرحه لنا أحد هؤلاء, هو أين كانت كل هذه الشجاعة والجسارة عندما كان نظام مبارك يعتدي علي استقلال وكرامة القضاة إبان محاكمة المستشارين مكي والبسطويسي؟ أين كان الاستعداد للاستشهاد عندما أطبق ضباط أمن مبارك علي المستشار محمود عبداللطيف حمزة منذ ست سنوات, وأوسعوه ضربا وداسوا عليه بالأحذية؟ لم نطالع أيا من هذه التساؤلات وأمثالها من المقارنات في الأغلبية الساحقة من الصحف والفضائيات التي خصصت مساحاتها وأوقات بثها من أجل الترويج للتدليس والتشويه, مرة أخري علي أمل إسقاط العدو المشترك. لقد كتب الأستاذ عبد الناصر سلامة(9/12) عن هؤلاء الذين اتخذوا من وسائل الإعلام ميدانا للاستعراض دون الأخذ في الاعتبار عواقب تدمير الإرادة لدي شعب كان من المهم في هذه المرحلة رفع الروح المعنوية لديه بالتحفيز علي العمل والإنتاج عقب نشوة الزهو بالثورة, وذكرنا بما قاله آفي ديختر الرئيس السابق لجهاز الشاباك الإسرائيلي من أن تفوق إسرائيل في مصر يعتمد علي شركائها من رجال الأعمال وأصدقائها من الإعلاميين المصريين. وهو ما يستدعي التساؤل: كيف يستطيع أي رئيس في ظل هذا المناخ الإعلامي المسموم أن يركز علي مشاكل سيناء أو ما يجري علي حدودنا الأخري؟ وفي حوار ب( الأهرام) مع وزير الإعلام(10/10), قال كثير من الفضائيات يحركها مال سياسي وصراع حزبي وتنتهج المناكفة السياسية وتريد إسقاط الدولة وتشويه الحقائق أمام الرأي العام ولا تتحري الدقة فيما تبثه وتسعي إلي إفشال الحكومة. وعليه فإني أؤكد أمرين, أولهما أن أخطر ما يواجه حاضر أي بلد ومستقبلها هو الإعلام غير المسئول القائم علي تصفية حسابات سياسية والتنفيس عن أحقاد شخصية والترويج لشائعات مغرضة والتسويق لفزاعات مفتعلة.. وثانيهما أن الجماعة المهيمنة علي الإعلام المصري, وبالذات في بعض الصحف والفضائيات الخاصة, أثبتت مرارا وتكرارا عدم أهليتها لإدارة هذه المنابر الإعلامية, وأنه لا مفر من إخضاع هذه المنابر لسلطة نواب الشعب في مجلس الشيوخ القادم.. هذه رسالة إلي الجمعية التأسيسية. أما رسالتي لمن يصرون علي التدليس والتلبيس, فهي.. هنيئا لكم هزيمة الثورة. المزيد من مقالات صلاح عز