أزمة النائب العام المستشار عبد المجيد محمود, وقرار إبعاده ثم إبقائه فتحت ملف الكراسي التي لا يجوز عزلها مثل شيخ الأزهر, والبابا شنودة, والقضاة. . فرغم أن الحديث كثير والأقاويل عديدة حول مفاهيم راسخة علي مر التاريخ بشأن هؤلاء فإن ثورة25 يناير فتحت باب التكهنات والاقتراحات والرؤي للتمرد والتجديد في ملفات ظل الاقتراب منها خطا أحمر ها هو شيخ الأزهر لم يسلم من المطالبة بإقالته, وها هو البابا شنودة لم يستطع أحد أن يزحزحه عن مكانه بمن فيهم الرئيس السادات نفسه, والتاريخ لم يهمل تسطير دراما الصراع بين البابا والرئيس. جاءت أزمة النائب العام الأخيرة لتعيد ترتيب الأوراق من جديد في الوسط القضائي الذي استند إلي وضعه في القانون.. حاولنا التقليب في صفحات هذا الملف فكانت البداية من حيث آخر الأزمات. إذا كان العدل أساس الملك وكانت وظيفة القضاة هي إشباع غريزة العدالة في نفوس المواطنين, فإن عزل القضاة لهو أمر بغيض لا ترتضيه الشرائع كافة, فيد القاضي المرتعشة لا تستطيع أن تسطر حكما منصفا هكذا يقول المستشار خالد الشناوي رئيس محكمة الاستئناف مضيفا بأنه كان لزاما علي الدولة أن تكفل للقضاة من الضمانات ما تجعلهم بمنأي عن التأثير عليهم من أي سلطة كانت. والفقه الإسلامي شدد علي حصانة القضاة واتجه رأي الجمهور من الفقهاء لعدم جواز عزل القاضي من قبل الحاكم, لأن ولاية القضاء إنما تقررت لمصلحة المسلمين ومن ثم فهي مصلحة عامة ويذكر التاريخ أن معاوية بن أبي سفيان حينما كان واليا علي الشام عزل عبادة بن الصامت الذي كان قاضيا علي فلسطين فأعاده عمر بن الخطاب وكتب إلي معاوية ان لا إمرة لك علي عبادة. والتاريخ يشهد كيف كانت هناك حاجة ماسة إلي هذه الضمانات لاسيما في العهود التي أضمرت خلالها السلطة التنفيذية شرا لكل من بدت منه معارضة لها, وإذا كان عزل القاضي وسيلة المستبد لإسكات كل صوت حر ينكل به فلا يجد قاضيا يجرؤ علي حمايته, فبغير هذه الضمانة لا يمكن لقاض أن يطبق ما يعتقد أنه القانون وبالتالي لا يمكن أن يسود القانون كما أن المواثيق الدولية قد رسخت فكرة استقلال القضاة وعدم قابليتهم للعزل فالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية نص في مادته الرابعة عشرة علي مبدأ حيدة واستقلال القضاء. وقد اجتمعت لجنة من الخبراء بإيطاليا عام1981 لوضع مشروع مبادئ حول استقلال القضاء, مما نتج عنه الإعلان العالمي لاستقلال العدالة الصادر عن مؤتمر مونتريال في كندا عام1983, لكن أهم تلك المواثيق والإعلانات هو المبادئ الأساسية بشأن استقلال القضاء الصادرة عن الأممالمتحدة عام1985 م, التي تعتبر الميثاق أو المرجع الدولي بشأن استقلال القضاء حيث نصت في البند الأول تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية, وينص عليه دستور البلد أو قوانينه ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية فأصبح مبدأ استقلال القضاء مبدأ دوليا مهما يشكل التزاما علي الدول كافة, وأغلب دساتير العالم باتت تعلي مبدأ استقلال القضاء, عدا دساتير الدول الاستبدادية الرجعية التي لا تعترف بالقضاء كسلطة مستقلة. ونصت المادة10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان علي أن الضمان الأول للمحاكمة العادلة ألا تصدر الأحكام عن مؤسسات سياسية, بل بواسطة محاكم مختصة مستقلة محايدة مشكلة بحكم القانون. وقد مر القضاة في مصر بمرحلة حرجة في أواخر الستينيات فيما عرف بمذبحة القضاة التي عزل فيها قضاة يشار اليهم بالبنان, مثل مصطفي نصار ويحيي الرفاعي, لا لشي سوي انهم وقفوا في وجه السلطة التنفيذية ولم يهادنوها فكان ما كان من عزلهم وأصابت تلك الحادثة صرح القضاء بجرح عميق لم يندمل إلا بصدور دستور1971 الذي نصت فيه المادة168 علي أن القضاة غير قابلين للعزل ثم صدور قانون السلطة القضائية46 لسنة1972 مقررا لذلك المبدأ ثم التعديل بقانون35 لسنة1984 في المادة67 رجال القضاء والنيابة العامة عدا معاوني النيابة غير قابلين للعزل ولا ينقل مستشارو محكمة النقض إلي محاكم الاستئناف أو النيابة العامة إلا برضاهم, وإذ إن منصب النائب العام هو منصب قضائي في المقام الأول فهو ليس تابعا للحكومة بل هو نائب عن المجتمع وهو الأمين علي الدعوي الجنائية فهو يملك سلطة التحقيق والاتهام والتصرف في الدعوي بإحالتها إلي المحكمة أو أن يقرر فيها بالأمر أن لا وجه لإقامة الدعوي الجنائية التي هي تناظر الحكم بالبراءة. تأديب وصلاحية من جهته أكد المستشار زكريا عبد العزيز رئيس نادي القضاة الأسبق أن قانون السلطة القضائية رسم طريقتين لمحاسبة القضاة تأديبا وصلاحية, والعقوبات في الطريقتين تأتي بعد ثبوت الجرم علي القاضي فيما ارتكبه, ففي الصلاحية إما أن يحكم بأن القاضي لا يصلح للعمل القضائي أو يحال الي وظيفة أخري. أما التأديب فإما يوجه إليه اللوم أو يحال الي المعاش والتقاعد. وهناك عقوبة الفصل وتأتي إذا أخل القاضي بواجبات وظيفته وأخل بواجبات وأعراف وتقاليد القضاء ويكون الحكم بالفصل بعد التحقيق معه وإذا ثبت الجرم يحال الي دائرة خاصة في محكمة استئناف القاهرة وتعرف بدائرة الصلاحية. وأشار زكريا الي أن هذه الدائرة تتكون من خمسة مستشارين: ثلاثة من رؤساء محاكم الاستئناف برئاسة رئيس محكمة استئناف المنصورة, وهذا يعتبر ترتيبه الثالث في أقدمية رؤساء محاكم الاستئناف اثنان من أكبر رؤساء محاكم الاستئناف وأقدم مستشارين في محكمة النقض. وتكون مهمة الدائرة النظر في مدي صلاحية القاضي في استمراره للعمل كقاض ويكون حكمها إما إحالته للصلاحية أو البراءة. وأوضح زكريا أن القاضي لا يعزل إلا إذا ارتكب جناية يجرمها القانون, كالرشوة والاختلاس, حيث يتم عزله ويقضي العقوبة وفقا لقانون العقوبات بالسجن والغرامة, ففي تلك الجرائم الجنائية يعامل القاضي كأي مواطن ارتكب نفس الجرائم أما إذا ارتكب القاضي جريمة جنائية ليس فيها عقوبة العزل مثل جريمة القتل أو التعذيب وفي حالة صدور حكم بشأنه نتيجة ذلك الجرم بالسجن وبعد الانتهاء من تنفيذ تلك العقوبة يقدم إلي محكمة الصلاحية, ويحكم فيها أنه أصبح لا يصلح باعتباره تم سجنه ومعاقبته جنائيا. مرة وحيدة أما شيخ الازهر فهو أعلي مرجعية مؤسسية للسنة وللمسلمين جميعا في العالم الإسلامي بأكمله باعتباره رمزا يجب الحرص علي حفظ مكانته ومقامه ليس تقديسا لأشخاص ولكن تقديرا للمكانة والمنزلة التي يشغلها, ومن المعروف تاريخيا أن( شيخ الأزهر) كمنصب رسمي ظهر عام1522 م وتعاقب عليه42 عالما كان أولهم الشيخ محمد بن عبد الله الخراشي عن طريق اتفاق علماء وشيوخ الجامع الأزهر علي اسم أحدهم وإبلاغه للوالي ثم بدأ تدخل الوالي في الاختيار في عهد أسرة محمد علي, وفي عام1896 تم إنشاء أول مجلس ادارة للازهر كما انه في عام1911 م نص قانون الأزهر علي أن يكون الاختيار من جماعة كبار العلماء, وعندما صدر قانون تطوير الأزهر رقم103 لسنة1961 ألغيت هيئة كبار العلماء وحل محلها مجمع البحوث الإسلامية المكون من50 عضوا, جاء النص علي أن يتم اختيار شيخ الأزهر من بين أعضاء المجمع وأن يكون رئيس الجمهورية هو وحده صاحب القرار وعلي أن( يعين ولا يقال). ويشير د.عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ الحديث بجامعة حلوان إلي أن عزل شيخ الأزهر حدث مرة واحدة ووحيدة عندما قام الملك فاروق في أكتوبر1951 م بعزل الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر وقتها, عندما انتقد تبذير الملك وإسرافه خصوصا في سفره للمصيف في كادبري وترك الشعب جائعا فقال جملة واحدة كانت سببا في عزله:( تقتير هنا وإسراف هناك). دعوات بالعزل بعد ثورة23 يوليو انطلقت عدة دعوات تطالب بعدم تحصين منصب شيخ الأزهر من العزل في حال إخلاله بمهام منصبه. ويوضح الشيخ السيد عسكر الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية سابقا أن المجلس العسكري أصدر قانونا بتشكيل هيئة كبار العلماء علي أن يكون اختيار شيخ الأزهر أحد اختصاصاتها مؤكدا أن منصب شيخ الأزهر غير مرتبط بسن ولا يملك أحد أن يقيله أو يعزله والحالة الوحيدة هي أن يستقبل من تلقاء نفسه. في السياق ذاته حصلت الأهرام من داخل كواليس الجمعية التأسيسية علي مضمون المادة4 التي تحدد موقف( شيخ الأزهر) في مشروع الدستور الجديد التي لم تحسم بعد كما يقول محمد السعيد عضو لجنة الحوار والمجتمع المدني وتلقي الاقتراحات بالجمعية بل لم تذكر في المسودة المبدئية التي تم طرحها للرأي العام حيث مازالت قيد نظر لجنة الصياغة التي ستصوغها طبقا لنصوص الأزهر, وإن كانت قد حظيت بالتوافق داخل الجمعية ومضمونها الذي يحصن المنصب من العزل يقول: يحدد القانون طريقة اختيار شيخ الأزهر وهو مستقل وغير قابل للعزل. البابا مكلف وحين نقترب من الكنيسة يأتي البابا متربعا علي عرشها لا يمس ولا يجوز تغييره أو عزله, فهو بمثابة الأب وليس من الطبيعي أن يتم عزل الأب عن أبنائه خاصة أن عمله ليس عملا سياسيا قابلا للاختلاف والاتفاق, وإنما روحي بالأساس. فهو مكلف من قبل الكنيسة بقيادة نفوس أولاده في طريق الأبدية كما يقول كمال زاخر منسق التيار العلماني القبطي, مشيرا إلي أنه وفقا للمنظومة الأبوية, ومنظومة القوانين الكنسية التي استقرت منذ القرن الرابع والمعروفة بقوانين المجامع المسكونية, لا يمكن عزل الأب البطريرك ولا الأسقف مالم يأت عملا مخالفا لعقيدة الكنيسة ومبادئها الأساسية. لذلك عندما يصاب البابا البطريرك بمرض يقعده عن الحركة أو العمل أو يفقده الأهلية لا يتم عزله, ولا تتم إقامة بطريرك آخر بديلا, وإنما يتم تعيين قائم مقام يقوم بأعماله بينما يبقي هو في موقعه الكنسي في صدارة الصلوات التي تحمل اسمه حتي وفاته. وربما يتضح لنا هذا كما يضيف زاخر عندما حدث الصدام بين الكنيسة والدولة الذي تصاعد حتي أصدر الرئيس السادات في5 سبتمبر1981 حزمة من القرارات العنيفة كان من ضمنها قرار بسحب الاعتراف بالبابا شنودة بطريركا من قبل الدولة, وواجهت الكنيسة هذا القرار بتشكيل لجنة باباوية مكونة من خمسة أساقفة لإدارة العلاقة بين الكنيسة والدولة, وبقي البابا شنودة بطريركا للكنيسة برغم احتجازه من قبل الدولة بأحد أديرة وادي النطرون, وانتهي الأمر بعودته الي كرسيه في7 يناير.1985