التأمت منذ أيام في العاصمة البيروانية ليما أعمال مؤتمر القمة للدول العربية ودول أمريكا اللاتينية, الذي مثل مصر فيه السيد وزير الخارجية نيابة عن السيد رئيس الجمهورية. وقد انطلقت مبادرة عقد مثل هذه القمة المشتركة منذ سنوات قليلة عندما التأمت القمة الأولي في العاصمة القطرية الدوحة وتزامنت حينذاك مع أحد مؤتمرات القمة العربية الدورية. ولكن التاريخ يكشف لنا عن أن مصر كان لها دور رائد في تفعيل العلاقة بين أمريكا اللاتينية والوطن العربي علي مستويين: الأول هو العلاقة بين دول وشعوب الإقليمين, والثاني هو العلاقة مع الجاليات العربية التي هاجرت إلي أمريكا اللاتينية منذ قرون مضت واستقرت هناك وتوطنت وأصبحت جزءا لا يتجزأ من نسيج شعوب بلدان أمريكا اللاتينية. بدأ ذلك بعد ثورة23 يوليو1952, حيث دعمت مصر بقوة حركات التحرر الوطني ضد نظم الاستبداد والتبعية للخارج, وهي النظم التي كان يدعمها الغرب, خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية, حينذاك في عدد من دول القارة اللاتينية, وفي مقدمة هذه الحركات التحررية كانت الثورة الكوبية بزعامة فيديل كاسترو وارنستو تشي جيفارا, وعندما التقي الرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر علي هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك عام1960, وبعد انتصار الثورة الكوبية, أكد له أن ثوار كوبا كانوا يستلهمون القدرة علي الصمود وهم يقاتلون ضد الديكتاتور المخلوع باتيستا من صمود الشعب المصري في مواجهة العدوان الثلاثي عام.1956 أما علي مستوي الجاليات العربية في الغرب, فقد كان للقاهرة فضل السبق أيضا عندما استضافت عام1964 أول مؤتمر للمغتربين العرب المقيمين خارج حدود الوطن العربي تستضيفه حكومة دولة عربية, وكان المغتربون العرب في أمريكا اللاتينية أحد الأعمدة العامة للمشاركين في ذلك المؤتمر, الذي خلص بدوره إلي مجموعة من التوصيات حرصت علي ربط هؤلاء المغتربين بالوطن الأم هذا عن التاريخ, ولكن ماذا عن المستقبل؟ الواقع يفتح أمامنا فرصا لا حدود لها ولا سقف لتوقعاتها للتعاون بين الدول العربية ودول أمريكا اللاتينية في مجالات متسعة, خاصة في ضوء ما حققه العديد من دول القارة من تقدم غير مسبوق ومتسارع في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا, بما في ذلك مجالات حيوية للغاية مثل تحلية المياه والاستخدامات السلمية المتطورة للطاقة النووية وغيرها, وكذلك ما وصلت إليه من امتلاك ناصية مكونات القوة الذاتية للدولة. وتزامن كل ذلك مع ما شهدته القارة من توجه قوي ومتماسك حتي الآن علي مدي العقد الأخير في بلورة تأكيد الاستقلال السياسي التام لنظم الحكم بهذه الدول وتطويرها وذلك كمواقف فيما يتعلق بسياساتها الخارجية, بعيدا عن هيمنة الجار الأكبر في الشمال, وهو ما ظهر بشكل واضح في تضاعف عدد الدول اللاتينية التي اعترفت علي مدي السنوات القليلة الماضية بدولة فلسطين, وهو الأمر الذي يمنح ثقلا ودعما مهمين للجهد الفلسطيني للارتقاء بوضعية فلسطين في الأممالمتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والوكالات الدولية المتخصصة. ولا يجوز أن ننسي المواقف الحاسمة من جانب غالبية دول القارة اللاتينية في دعم الثورات العربية في مصر وتونس وغيرهما في سياق الربيع العربي, وهو الأمر الذي ينقلنا إلي أهمية الاستفادة مما تطرحه دول أمريكا اللاتينية, أو البعض منها علي أقل تقدير, من نماذج للبناء الديمقراطي والتحديث السياسي والتنمية الاقتصادية المتوازنة والعدالة الاجتماعية وتطوير الموارد البشرية من سياسات تعليم وتدريب وغيرها وكفالة الخدمات الأساسية من رعاية صحية ومساكن وغيرها, يمكن أن تستفيد منها الدول العربية الكثير, خاصة إذا أخذنا في الاعتبار التشابه الكبير بين العديد من الظروف الاقتصادية والاجتماعية في بلدان أمريكا اللاتينية وبين الدول العربية, خاصة البلدان التي شهدت ثورات الربيع العربي. وبعد, فإن عقد القمم العربية اللاتينية يمثل في حد ذاته حدثا إيجابيا للتشاور وتبادل الرؤي وتنسيق المواقف إزاء التعاون الثنائي وأيضا إزاء القضايا المطروحة علي الساحة الدولية, ولكن يتعين ضمان انتظام عقد هذه القمم ودوريتها, ثم الانتقال إلي مرحلة ترجمة الإرادة المشتركة للعمل والتعاون إلي آليات للعمل علي مستويات أقل من مستوي القمة بما يصل إلي مستوي الخبراء ومرورا بمستويات وزارية وما دونها, كما يجب أن تترجم هذه الإرادة في شكل برامج ومشروعات قابلة للتنفيذ علي ارض الواقع وتحقق مصالح مشاركة للطرفين بما يكفل لها الاستمرارية والتواصل والديمومة. المزيد من مقالات د.وليد محمود عبد الناصر