في تراثنا الشعبي مقولة نصها كأنك يا أبو زيد ما غزيت, وبالرغم من أنني فشلت حتي اللحظة في معرفة حكاية السيد أبو زيد وموضوع غزوته التي عاد منها بخفي حنين. فإنني أظن أن هذه المقولة باتت تعد أصدق توصيف لكثير من الأزمات الثقافية التي تصورنا أنها عقب25 يناير ستجد طريقها للحل لكنها حتي الآن لا تزال أشبه بحجر كئود لا يتفتت, والمؤلم أنه يتضخم بمرور الوقت ملقيا بظلال سلبية كئيبة علي كل جوانب حياتنا. مع الأسف, لا تزال إشكاليات العمل الثقافي وكل عناصره المؤثرة المتمثلة في الإعلام والتعليم, علي حالها إن لم تكن في وضع أسوأ, سواء علي مستوي التنظيم المؤسسي أو مستوي تحديد ووضوح الهدف وآليات التنفيذ, فمازال شبح عجز تمويل الأنشطة الثقافية يطارد العاملين في الحقل الثقافي ولا تزال قصور الثقافة تعاني مشكلاتها الأزلية ومعظم المسارح أبوابها مغلقة, ولا نزال نعيش نفس أجواء قضايا حرية التعبير, التي سبق وأن قتلت بحثا وكان من المفترض أنها حسمت.. وعلي الجانب الموازي تطالعنا إشكاليات المضمون الإعلامي وتذبذب بوصلته سعيا وراء رفع نسب المشاهدة والإعلانات, وتفضيل أهل الثقة علي أهل الكفاءة, ولو أدي الأمر للترويج لتيار أو فكرة بعينها علي حساب التيارات والأفكار الأخري أو التكريس لمفاهيم تؤجج نيران الفرقة والانقسام بين أبناء الوطن الواحد, فإذا انتقلنا للتعليم الذي كان من المنتظر أن يكون نقطة الانطلاق والتحول تباغتنا خيبة أمل الطلاب وتصريحات تشير إلي استمرار حشو عقول أجيال من المصريين بمواد ومناهج تعليمية تتأرجح بين القديم والجديد, وتحاول استيراد تجارب أجنبية لا علاقة لها بمعطيات الواقع المصري أو تسعي لاختزال المعرفة في عدة مهارات للتأهيل لسوق العمل, وتلك الرؤية تحديدا تتجاهل أن عصر ثورة المعلومات والاتصالات قد شكل مجتمعا جديدا, يعتمد اقتصاده علي المعرفة وتوجيه انتاج المعلومة وابتكارها. وتغفل أن المعرفة بمفهومها الواسع والقدرة التنافسية في انتاجها ونشرها علي مستوي العالم قد أصبحت الضمان لاستقرار أي مجتمع وبقائه في المقدمة, كما أنها تتناسي أن مفهوم الأمية الذي يحتفل العالم بيوم مقاومتها في شهر سبتمبر من كل عام قد خرج من عباءة أمية القراءة والكتابة والجهل بالكمبيوتر ليطرح قضية الأمية المعرفية. في هذا السياق يقول د. محمد عثمان الخشت أستاذ فلسفة الأديان والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة إن مفهوم وحدة المعرفة والجمع بين دراسة العلوم التطبيقية والطبيعية والانسانية ضرورة, إذ إن هدفه تشكيل اسلوب التفكير العلمي فأساليب التفكير لا تعلمها كتب الطب أو الهندسة, بل العلوم الانسانية التي لا تزال مادة مناهج البحث العلمي وطرق التفكير جزءا متأصلا في بنيانها, ولا بد أن ندرك الفرق بين المعلومة والعلم, فالمعلومة لا تصنع عالما ولكن يمكن أن تصنع شريط كاسيت أو فيديو أو كتابا, لكن الذي يصنع العالم هو طريقة التفكير العلمي, وتلك الطريقة لها خطوات وأساليب لابد من تعلمها, وبالتالي أستطيع أن أقول إن لدينا معلومات لا علماء وإننا لا نزال نعتمد علي علم ومعلومة الآخر. وتتجلي أهمية العملية التعليمية في عملية صياغة الثقافة المجتمعية ومنظومة القيم الضابطة للتفاعل الاجتماعي في عبارات د.مجدي حجازي أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة القاهرة إذ يقول إذا تأملنا بناء الثقافة من الداخل نجده يتشكل من مكونات أساسية, أولها منظومة القيم الوجدانية, وهي تشكل القاعدة المعنوية التي يستوعبها الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية التي تتم في الأسرة, ثم من المدرسة والإعلام بعد ذلك, وتتمثل الوظيفة الأساسية لمنظومة القيم الوجدانية في كونها تربط الشخص بموضوعات بيئته التي ينشأ فيها عاطفيا ووجدانيا, كالارتباط بالأم والوطن والأسرة والعلم رمز الوطن, ومن شأن هذه القيم أن تؤسس قاعدة انتماء الشخص لمرجعيته الاجتماعية والوطنية, منذ الصغر وبصورة تلقائية, ويتشكل المكون الثاني من منظومة القيم الإدراكية التي تتشكل من المعارف الحديثة التي يتعلمها الإنسان من المدرسة وحتي الجامعة, وتتميز القيم الإدراكية بكونها ليست من طبيعة عاطفية كالقيم الوجدانية, ومن شأنها أن تقوي الجانب العقلاني في الإنسان, والمكون الثالث هو مجموعة القيم التفضيلية, وهي القيم التي تشكل مرجعية الإنسان في الاختيار والمفاضلة بين الموضوعات. مما سبق يتضح الدور الأساسي الذي تلعبه المنظومة الثقافية( التي تعد الأسرة والمدرسة والإعلام محاور أساسية فيها) في عملية الضبط الاجتماعي والنهوض بالمجتمع, الأكثر من ذلك أن هذا المنظور يمكن ان يفسر أسباب التحولات التي طرأت علي المجتمع المصري وباتت تهدد وسطيته وقيمه العميقة الجذور, ففي ظل واقع همش الثقافة وفرغ التعليم من مضمونه وإعلام أعلي من شأن القيم المادية والسطحية والتفاهات عشنا تحولات مثلت انحرافا في السمات المعروفة للشخصية المصرية, وظهرت جليا في أسلوب التعامل مع الأزمات وفي استشراء السلبية والميل للاغتراب وتغليب المنفعة الفردية علي المصلحة العامة وتراجع قيم اتقان العمل القيم التي تحكم العلاقات الاجتماعية. ولأن التاريخ يؤكد أن المنظومة الثقافية المصرية بكل أضلاعها كانت السلاح الأمضي في كل معارك التنوير ومكافحة الجهل والخرافة والعادات الاجتماعية الضارة, فقد كان من المنتظر أن يبدأ التحول الايجابي بحل مشكلات الأجهزة الثقافية ومنظومة التعليم والإعلام, تفاديا لتكرار أخطاء الماضي ولإعداد أجيال مبدعة قادرة علي انتاج ثقافة معرفية وتفادي استهلاك علم يحدد الآخرون شروط تلقيه وتوظيفه. لكن مع استمرار الحال علي ما هو عليه وتغيير الوجوه وبقاء السياسات وأسلوب التفكير نفسه, لن يصبح أمامنا إلا ان نبكي مع أبو زيد أحلامنا, وحصونا لم يستطع اقتحامها في غزوته... [email protected]