في الأسبوع الماضي قمنا بالإشارة علي عجالة إلي مجموعة القوانين المطروحة علي الكونجرس الأمريكي بدعوة منع القرصنة وحماية حقوق النشر علي شبكة الإنترنت. وفي السياق نفسه أشرت إلي التبعات التي يمكن أن تترتب علي إقرار تلك القوانين وكان أهمها السيطرة التامة علي الإنترنت, وتقليل حرية الوصول للمعلومة و فرض الرقابة علي مواقع بعينها أو حجبها وتصفيتها وبالتالي إمكان حجب المعلومة كلية, أو منع وصولها لدول بعينها أو علي أقل تقدير منع الحصول عليها مجانا. ورغم أنني لست في موقع يتيح لي إصدار الأحكام و الادعاء بأنني أدرك ما يدور في الكواليس أو الأهداف المستقبلية التي ترمي إليها مجموعة القوانين التي تم تجميدها مؤقتأ, فإنني لم أستطع أن أكبح جماح قلمي فصرح بشكوك فحواها أن اللافتة البراقة التي يختفي وراءها المدافعون عن تلك القوانين ليست إلا حجة تصب في مصلحة تحالف بين مجموعة من السياسيين ورجال الصناعة لاحتكار المعرفة و تحويلها لسلعة يتم التعامل معها طبقا لأجند كما اتهم ومصالحهم السياسية والاقتصادية, خاصة مع تصاعد اتجاه مناهضة لاحتكار حقوق النشر, باعتباره نوعا من احتكار حق المعرفة و التمييز بين جمهور الباحثين عنها علي أساس مادي بحت. والحقيقة أن ما جري به القلم لم يكن انسياقا وراء نظرية المؤامرة أو محاولة لتسطيح المشكلة و إلقاء تبعتها علي أطراف أخري, بقدر ما كان مدخلا لتناول الدلالات الأهم والأخطر الكامنة في ثنايا تلك القوانين, و التي ستكون أقل تبعاتها تقليص حرية المتعاملين مع عدد من المواقع الخاصة بالتواصل الاجتماعي, وإعاقة البحث عن المعلومات أو فرض رسوم مقابل الحصول علي الخدمة, فالقضية الأخطر و الأكثر إلحاحا الآن التي تطرحها حزم القوانين الحالية أو تلك التي لا تزال في الأدراج هي مشكلة الفجوة المعرفية, بين الدول المنتجة للمعرفة والمستهلكة لها, وبالتالي تحول المعرفة و القدرة علي إنتاجها و تسويقها لشكل من أشكال الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فإذا كان للمجتمعات الزراعية و الصناعية اقتصادياتها وآلياتها, فقد شكلت ثورة المعلومات والاتصالات مجتمعا جديدا يعتمد اقتصاده أساسا علي المعرفة. فاقتصاد هذا المجتمع, وإن كان يولي اهتماما كبيرا للمعلومة وكيفية توظيفها والاستفادة منها, فإن اهتمامه الأول يظل في إطار توجيه إنتاج المعلومة و تسويقها لتصبح المعرفة الدعامة والضمان لاستقراره وبقائه في المقدمة, بمعني أن الذي يميز مجتمع المعرفة ليس فقط الحصول علي المعلومات أو إمكان استخدامها بكفاءة وتسخيرها لتحقيق أهداف معينة, بل الأهم والأخطر هو انتاج هذه المعرفة باعتبارها العامل الحاسم في المنافسة علي كافة المستويات وفي كل المجالات, والمؤشر الذي يحدد قدرات المجتمع علي البقاء والصمود والتقدم في مواجهة مستجدات العالم المعاصر. ويحدد المتخصصون عددا من سمات مجتمع المعرفة يأتي في مقدمتها القدرة التنافسية, في مجال إنتاج ونشر المعرفة علي مستوي العالم. وتليها مرتبة الاهتمام بالبحث والتنمية والاعتماد علي الكمبيوتر والإنترنت, وبالتالي ففي ظل هذه المنظومة تعتبر المعرفة رأس المال الحقيقي والمنتج, أو السلعة التي تتحدد قيمتها بقدر الابتكار والفكر الكامن وراء إبداعها. وهنا تتضح أبعاد المشكلة بين المجتمعات المنتجة للمعلومة وبرمجياتها,وبيننا نحن وكثير من الدول بما فيها بعض المجتمعات المتقدمة و التي يمكن تلخيصها في الاكتفاء بالقدرة علي استخدام هذه التكنولوجيا للحصول علي المعلومات أو توظيفها لتصريف الأمور الآنية فالوضع علي تلك الصورة يوجد فجوة معرفية بين الدول المنتجة للمعلومة والقادرة علي إنتاج برمجيات وأنشطة تستفيد منها وتواكب عملية التحول لإنتاج المعرفة واعتبار الأخيرة سلعة اقتصادية تشكل مصدرا للدخل في المجتمع المنتج لها وبين الدول القابعة في خانة المتلقي لهذا المنتج و الاكتفاء باستهلاكه, الأمر الذي يجعلها دائما عرضة لإشكاليات إخضاع الشبكات الإلكترونية للرقابة الصارمة وتبعات قوانين الملكية الفكرية, وحقوق النشر والتداول وفرض أسعار مبالغ فيها أو قيود علي بيع أو تداول المعرفة من قبل الدول المنتجة لها مما يزيد من احتمالية حرمان المجتمعات المستهلكة من حق المعرفة والاستفادة منها. وبالتالي قطع السبل أمامها لتتراجع للوراء أو تظل في أحسن الظروف في خانة محلك سر.. وفي سياق ما تقدم و إدراك أن إنتاج المعرفة بات الوسيلة الوحيدة لضمان البقاء وتقرير المصير في عصر يموج بالصراع السياسي والاقتصادي والعلمي والثقافي, يصبح السؤال الملح والتحدي الحقيقي ليس مواجهة الجديد في آليات استخدام الفيس بوك واليوتيوب وجوجل وغيرها من المواقع التي أدمناها قدر ما هو محاولة مواجهة التحديات التي يفرضها عصر المعرفة, والخروج من مأزق الاستمرار في وضعية المستهلك أو المتلقي, والتحول لمنتج و مبدع ومنافس, وهي أمور لا يمكن تحقيقها إلا في ظل منظومة ثقافية,جناحاها التعليم والإعلام, لتنشئة أجيال جديدة قادرة علي التأمل والتفكير والإبداع وإنتاج ثقافة معرفية في مختلف المجالات, فمتي وكيف نبدأ خطواتنا ليكون لنا حق تقرير المصير؟ تلك هي المعضلة.. ge.gro.marha@ahieless