في سلسلة مقالات نشرت بهذه الصفحة خلال يناير2008, تناولت ظاهرة عنف المعلومات التي تمارسها الحكومة ضد المجتمع والمواطنين, ثم أصدرتها في كتاب بعد ذلك, وتحدث في هذه المقالات عن العلاقة الوطيدة بين ظاهرتي الفساد وعنف المعلومات. وها هي ثورة يناير تكشف النقاب عن أبعاد مهولة لظاهرة الفساد, جميعها يؤكد أن انحراف الذمة وهوس الاستئثار بالمال والسلطة لا يمكنهما وحدهما إفساد الحكم ونهب الاقتصاد علي النحو المروع الذي تتكشف أبعاده يوما بعد آخر, بل لابد لهما من ساحات واسعة مظلمة, يصول فيها أصحاب هذه النفوس ويجولون دون أن تعلم الأمة ماذا يفعلون وماذا يأخذون وكم من الأموال يكدسون, وكم من الأراضي ينهبون وكم من الأنفس يعذبون ويقتلون, مساحات غير مرئية, المعلومات فيها معتقلة ومحجوبة ومشوهة وفقيرة وعنيفة, تجعل من السهل علي الذمم المنحرفة والنفوس المهووسة بالمال والسلطة أن تتغول وتستأسد علي البلاد والعباد. والمتأمل لقضايا ووقائع الفساد الجاري التحقيق فيها الآن يجد أن بينها قاسما مشتركا هو أن هذه القضايا تغذت بصورة أو بأخري علي حالة عنف المعلومات التي مارسها النظام السابق ضد الشعب ومواطنيه, وتوضيح ذلك يقتضي الإشارة سريعا إلي معني العنف في صورته العامة, ثم معني عنف المعلومات بصورته المحددة. إن أبسط تعريفات العنف تقول أنه كل استخدام للقوه بطريقة غير شرعية وغير مبررة من قبل طرف ضد آخر ينجم عنه أذي أو ضرر بشكل دائم ومستمر أو لمرة واحدة. وكما هو معروف فإنه بالإمكان استخدام المعلومات للإضرار وإلحاق الأذي بالفرد أو المؤسسة أو المجتمع ككل, وانطلاقا من ذلك فإن عنف المعلومات يقصد به كل استخدام للقوه بطريقة غير شرعية وغير مبررة من قبل طرف ما, من شأنه أن يحجب أو يتلاعب أو يضر بسلامة أو جودة أو صحة أو إتاحة المعلومات أو توقيتات الوصول إليها, ويقع بسببه أذي أو ضرر بشكل دائم ومستمر أو لمرة واحدة علي من يحتاج هذه المعلومات أو يستهلكها أو يستخدمها في اتخاذ قرار أو يستفيد منها في قضاء حاجة. وتتخذ القوة هنا ثلاثة أشكال: الشكل الأول القوة الناجمة عن امتلاك المعلومات والقدرة علي حجبها كما هو الحال في الجهات المالكة للمعلومات وقواعد بياناتها, والشكل الثاني هو القوة الناجمة عن امتلاك أدوات توليد المعلومات ونشرها كما هو الحال مع أجهزة الإعلام وغيرها, والشكل الثالث هو القوة الناجمة عن امتلاك أدوات التلاعب في المعلومات وتخريبها وسرقتها وإفسادها كما هو الحال مع جرائم المعلومات ومحترفيها. ولو طبقنا هذا التعريف علي قضايا الفساد والإفساد الجاري المحاكمات بشأنها الآن, سنجد أنها جميعا تغذت بصورة أو بأخري علي درجة من درجات عنف المعلومات الذي مارسته البيروقراطية وأجهزة وقيادات النظام السابق, الذين امتلكوا المعلومات واحتكروها وتحكموا في إتاحتها وحجبها طبقا للأهواء, وبسوء الإدارة والانتقاص والاعتقال والإبطاء والمتاجرة فحدث هذا القدر المهول من الفساد. فعلي نطاق المجتمع العام نجد أن الجداول الانتخابية في عهد النظام السابق تقدم نموذجا حيا لحالة عنف المعلومات الناشئة عن عدم الاعتداد بحق الجماهير في الحصول علي المعلومات والتراخي في إعداد المعلومات وتركها عرضة للنقص والتشويه وتدني الجودة, ويمكننا القول أن المحتوي المعلوماتي المتعلق بالعملية الانتخابية في مصر تعرض لعمليات تشويه وإفساد عميقة ومستمرة منذ سنوات طويلة, نجم عنها أضرار وأذي لملايين الناخبين وللمجتمع ككل, وهي أضرار كانت تبدأ بالممارسات والسلوكيات العنيفة أثناء الانتخابات سواء من جانب السلطة أو بعض الناخبين أو جماعات البلطجة وتجار وسماسرة الانتخابات وتنتهي بتزييف إرادة الناخبين وإفراز نتائج تزيد من الاحتقان السياسي وتعمق حالة فقدان الثقة بين الشعب والحكومة والنظام, الأمر الذي يسهم بصورة أو بأخري في رفع مستوي العنف المادي بالمجتمع سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي قضية الأراضي والعقارات المنهوبة, نشأت ملفات الفساد التي تطال الكبار في الظلام, واستمرت في الظلام لسنوات طويلة, دون أن تتاح للمجتمع فرصة التقاط وجمع المعلومات المتعلقة بقوائم من حصلوا علي الأراضي التي تحدث الرئيس السابق بنفسه ذات يوم عن تسقيعها والمتاجرة فيها, وتواريخ حصولهم عليها ومواقع هذه الأراضي ومستوي أسعارها في توقيت الحصول عليها وأسعارها الحالية أو الأسعار عند بيعها والتصرف فيها, وحجم التصرفات بالبيع في هذه الأراضي ومسار التصرف ولمن ذهبت الاراضي بعد تسقيعها, وكم بلغت فروق الأسعار وكم خسرت الخزانة العامة, وكم كسب من قاموا بالتسقيع, ومضي الرئيس ونظامه مخلفا ورائه تركة ثقيلة مفزعة ناجمة عن زواج خبيث للمال مع السلطة تحت جنح االظلام المعلوماتي, وحينما بدأت التحقيقات والمحاكمات بعد الثورة, ظهرت المعلومات المحجوبة التي كشفت للجميع القدر المهول من التجاوزات التي اقترفها النظام السابق وأركانه في قضية الأراضي والعقارات. وفي حادث غرق العبارة السلام أقدم النظام السابق علي عملية حجب عنيفة للمعلومات, ليس فقط بعد وقوع الحادث وإنما قبل ذلك بكثير, بدءا من المعلومات الأساسية عن العبارة منذ لحظة شرائها ثم وصولها للمياه الإقليمية المصرية ثم التفتيش عليها ومراجعتها والتصريح لها بالعمل والإبحار, فالمجتمع المصري لا يعرف حتي هذه اللحظة أين هي هذه المعلومات, ومن حصل عليها وهل احتفظ بها لنفسه أم قام بتمريرها للجهة المعنية, وهل كانت هذه المعلومات دقيقة أم مضللة, وحينما وصلت للجهات المسئولة ماذا فعلت بها هل قامت باعتقالها وتخزينها أم تجاهلتها أم تعاملت معها كما ينبغي؟ وفي ملابسات هذه القضية اتضح أنه حينما توافرت بعض المعلومات حول العبارة لم تقم الجهات المعنية بترجمتها وتفعليها في صورة قرارات علي الأرض تنقذ رؤوس الأبرياء من الموت, بل قام أركان النظام السابق باعتقالها وحجبها عن العيون والتغاضي عنها, فالواضح مما نشر عقب الحادث أنه كان لدي الهيئات المعنية معلومات غزيرة مؤكدة عن تهالك العبارة وتقادمها وسوء إمكاناتها وانتهاء عمرها الافتراضي وعدم كفاءة أجهزة السلامة عليها, لكن ما حدث أن هذه المعلومات اعتقلت وحجبت وأهملت تحت وطأة زواج المال بالسلطة, فقد نشرت إحدي الصحف معلومة تقول أن وزير النقل الذي كان موجودا قبل وقوقع الحادث أجري تغييرا في بعض اللوائح والقوانين بما يسمح لهذه العبارة وغيرها بالعمل, وهذه المعلومة بالذات تؤكد أن المعلومات التي توفرت لدي الجهات المعنية جري توظيفها عمليا بشكل عكسي, أي استخدمت المعلومة في لي ذراع اللوائح لتتلاءم مع حالة العبارة, بدلا من استخدامها في إخراج العبارة من الخدمة, وتم ذلك تحت جنح الظلام المعلوماتي الذي مارسه النظام ضد الشعب, وكانت النتيجة الدفع بحوالي1200 شخص إلي قاع البحر. وفي قضية المبيدات المسرطنة واجه المجتمع خطرا صحيا وبيئيا وتنمويا عاتيا لم تنته آثاره حتي اليوم, ومع ذلك لم تكن هناك آلية تضمن للمجتمع الوصول إلي الوثائق الحقيقية المتعلقة بالقضية من داخل وزارة الزراعة وأجهزة الدولة الأخري, ففي ذروة التناول الإعلامي والمجتمعي للأزمة لم ينشر مثلا نص قرار إلغاء لجنة المبيدات الذي سمح للمبيدات الفاسدة بالدخول ولا حيثيات صدوره وظل نص القرار معلومة محجوبة عن النشر, ولم ينجح المجتمع حتي هذه اللحظة في معرفة الأعداد الدقيقة والحقيقية للمبيدات التي دخلت البلاد بصورة مخالفة ومتي, وأسماء من وقعوا علي أمر استيرادها, والأخطر من ذلك أنه لا توجد معلومات أو وثائق ترسم خريطة واضحة لمسار هذه المبيدات بعد دخولها منذ لحظة خروجها من الموانيء وحتي رشها في الأرض, ومن الذين تداولوها وما المحاصيل التي استخدمت فيها ومتي, والمواقع الجغرافية التي وصلتها هذه المبيدات ونسب الاستخدام في كل منطقة, ونسب بقاياها في التربة والمحاصيل والخضروات والفاكهة, وغيرها من المعلومات التي كان النظام السابق عنيفا للغاية في التعامل معها بحكم سيطرته علي المعلومات والتحكم فيها. وإذا كان عنف المعلومات في قضية الأراضي والعقارات والمبيدات وغيرها قد قام علي الشح والإفقار والحجب, فإن النظام استخدم تكتيكا مغايرا قام علي العنف بالإغراق والإفراط المعلوماتي الغث في مجالات أخري, جيث لجأ مثلا إلي تعريض البلاد إلي فيض من الإعلام الدعائي الاحتفالي, ساد في السياسة والاقتصاد والفن وغيرها, وكان الهدف منه إغراق عقول المتلقين بمعلومات زائدة باطشة, تفقدهم القدرة علي تحديد الاتجاه, كما استخدم هذا الفيض المعلوماتي في إذكاء حالة الصراخ الإعلامي القائم علي محتوي سماعي وإشاعات غير موثقة ضد فئات وشرائح بعينها, مما أفرز عنف معلومات أهوج, هيج نسيج المجتمع وجعل بعضه في مرمي لسعات بعضه الآخر بشكل عبثي غير مبرر. خلاصة القول أن مرحلة ما قبل25 يناير بنظمها وقادتها ومسئوليها قد برعت في إظلام مصر وإفقارها معلوماتيا إلي الدرجة التي تحول فيها فقر المعلومات إلي وقود لعمليات فساد واسعة النطاق, خلفت ورائها عنفا سلوكيا وماديا بالمجتمع, يعلم الله وحده كيف ومتي نتجاوز شروره ومخاطره, وهو ما يجعلنا ننبه من الآن إلي ضرورة تضمين الدستور الجديد مادة أو مواد تنص صراحة علي أن الحصول علي المعلومات وضمان انسيابها وتداولها بشفافية حق من حقوق المواطنة العليا, يتعين احترامه لصون حقوق الإنسان وتعضيد العدالة والمساواة وإفساح المجال نحو بيئة اقتصادية استثمارية شفافة وآمنة ومستقرة.. وهذا حديث آخر.