هذا الموضوع لم أجتهد فيه, فهو منقول عن مذكراتي وهي عادة كنت أحرص عليها إلي حد ما بعد أن تعلمتها من أستاذي محمد حسنين هيكل, ومن المفارقات أنه وإن كانت هذه المذكرات عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلا أنها نقلا عن الأستاذ هيكل كما سيعرف القاريء. وقد كان من عادة الأستاذ هيكل منذ تولي رئاسة تحرير الأهرام عقد إجتماع مسائي في حوالي الخامسة مساء مع افراد الديسك المركزي وهو عبارة عن مائدة مميزة في صالة التحرير تصب فيها مواد الصفحات المختلفة ويتولي أفرادها مراجعة هذه المواد وتوزيعها علي الصفحات مع إعطاء أهمية خاصة لما ينشر في الصفحة الأولي بإعتبارها نافذة الصحيفة إلي القاريء. ولذلك كان الأستذ هيكل يخصص الجزء الأكبر من إجتماع المساء لمناقشة ماسيتم إختياره للنشر في هذه الصفحة. وكان بعد أن يتقرر مواد الصفحة يتم إعادة كتابتها من أفراد الدسك حتي تقدم للقاريء في الصورة التي حافظت علي سمة الصفحة الأولي وأخبارها. وإلي جانب مناقشة ما يتصل بهذه الصفحة وما تحويه باقي الصفحات كان الأستاذ هيكل في بعض الأيام يحكي عن كثير مما يشاهده ويعيشه في فترة كانت علاقته مع جمال عبد الناصر علاقة غير مسبوقة بين حاكم وصحفي. وإلي المذكرات: الإثنين 28 سبتمبر 1970: حضر الأستاذ هيكل الإجتماع المسائي للديسك المركزي حوالي الخامسة والثلث. وكان واضحا أن الموضوع الرئيسي (مانشيت الأهرام) هو الإجتماع العاجل الذي دعا إليه جمال عبد الناصر ملوك ورؤساء العرب لمواجهة الصدام الدامي الذي جري في الأردن بين قوات الملك حسين ملك الأردن والقوات الفلسطينية الموجودة في المملكة الأردنية. وقد إعتبر حسين أنها تجاوزت حدودها وراحت تتصرف كدولة مستقلة داخل دولته فقرر العمل علي إخراجها ولكن بعد أن كانت قد قويت قدراتها بصورة كبيرة. وقد إنتهي المؤتمر أمس وبدأ قادته العودة إلي بلادهم. أنهينا سريعا مناقشة أخبار الصفحة الأولي بينما راح الأستاذ هيكل الذي أحس أن عبء المؤتمر قد إنتهي بنجاح لعبد الناصر يحكي عما عاشه من حكايات خلال جلسات وكواليس المؤتمر. وقد حكي كيف أن العقيد القذافي إتهم الملك حسين بالجنون وأنه إقترح إرسال أربعة أشداء يخطفونه ويضعونه في مستشفي الأمراض العقلية. وقال الملك فيصل ملك السعودية بدهشة تعليقا علي إقتراح القذافي: لكن الملك حسين رئيس دولة ؟ أجاب القذافي بسرعة: ولو.. هذا مجنون.. هناك رؤساء مجانين ولابد من تشكيل لجنة طبية تكشف عليهم. قال عبد الناصر: أنا أقترح أن تكشف اللجنة علي جميع الملوك والرؤساء. قال الملك فيصل موجها حديثه إلي عبد الناصر: أنا أرجو يافخامة الرئيس أن أكون أول من تطلب من اللجنة الكشف عليه كي تثبت أنني فعلا مجنون وأخرج من هذا الإجتماع. قال عبد الناصر ضاحكا: يبدو أن القذافي أول من سيقع في هذه اللجنة فجأة قال لنا الأستاذ هيكل بالحرف: بقالي خمس دقايق مش قادر أقوم.. هلكت خالص أيام المؤتمر. قال أحدنا: سيادتك تروح البيت علي طول وتنام والحمدلله الأمور هديت. سكت هيكل وقد بدا أنه يغالب الرغبة في الإستسلام للجلوس وضرورة أن يغادر.. ثم بطريقته وعبارة تعودناها نهض واقفا وهو يقول: يالا بلا هوسة! قال ذلك ومضي متجها إلي مكتبه بخطي تبدو فعلا متعبة ولكن كان يعوضها أنه سيخرج من المكتب إلي البيت وينام مبكرا (ينام الأستاذ هيكل عادة الحادية عشرة وكنا في الأهرام نراعي عدم الإتصال به في وقت متأخر بعد ذلك إلا في الأمور العاجلة عن طريق خط مباشر بين الأهرام وبين تليفون بجانب سريره) إستدعاء عاجل إلي بيت الرئيس بعد دقائق من وصول هيكل إلي مكتبه وهو يحس أنه تلميذ أنهي الإمتحان وسهر الليالي وسينال مكافأة راحة, جاءه التليفون الذي جعله بدلا من أن يغادر الأهرام إلي منزله يستقل سيارته بسرعة إلي بيت جمال عبد الناصر ليعيش ليلة الأحزان بعد أن تحول الرجل الذي يتحدث عنه العالم إلي ماضي وتاريخ! كان الجو قد بدأ يتغير.. وبدأت أخبار تتسرب لكن الذي كان يسمعها يتشكك فيها ولا يستطيع التعليق.. وفي الساعة الثامنة والربع مساء دق جرس التليفون المباشر علي الديسك.. إلتقط السماعة الزميل الأستاذ محمود عبد العزيز رحمه الله الذي فوجيء بهيكل يقول له مباشرة: إدخلوا كل أخبار الصفحة الأولي في الداخل وخلوا الصفحة الأولي كلها فاضية وخلي كل اللي عندك ستاندباي. إنتقل ماقاله الأستاذ سريعا إلينا نحن الذين كنا قد تسمرنا حول التليفون في إنتظار رنينه.. وبدا الكلام إشارة للحدث الجلل الذي سقط علي رؤسنا بعنف.. وبعد قليل تأكد الخبر في الوقت الذي حولت محطات الإذاعة برامجها وتوحدت كلها في تلاوة القرآن الكريم حتي الحادية عشرة إلا خمس دقائق عندما جاء صوت أنور السادات يلقي البيان الذي كتبه الأستاذ هيكل يقول فيه: فقدت الجمهورية العربية المتحدة, وفقدت الأمة العربية, وفقدت الإنسانية كلها رجلا من أغلي الرجال وأشجع لالرجال وأخلص الرجال وهو الرئيس جمال عبد الناصر الذي جاد بأنفاسه الأخيرة في الساعة السادسة والربع من مساء اليوم 27 رجب 1390 الموافق 28 سبتمبر 1970 بينما هو واقف في ساحة النضال يكافح من أجل وحدة الأمة العربية ومن أجل إنتصارها. وما زلت أنقل عن مذكراتي