رسم الخرائط المعرفية فضيلة ترتبط بالتقدم... لذا تهتم ماكينات البحث الأوروبية الأكاديمية والسياسية بأن تجدد خرائطها المعرفية أولا بأول. فلا مجال لأفكار سطحية، ولا مكان لمعلومات زائفة... فى هذا المقام، يمكن رصد عشرات الدراسات التى حاولت رسم خريطة اليسار الجديد أو فى الحقيقة ما بعد الجديد أو الإنسانى بحسب ما وصفناه فى مقالنا السابق. وذلك تمييزا عن اليسار التاريخى الذى عرفته أوروبا. وتتناول هذه الخرائط ما يلي: أولا: تعريف معنى اليسار ما بعد الجديد. ثانيا: المسار التاريخى لتحولات اليسار الأوروبى. ثالثا: الرموز الفكرية لليسار الأوروبى. رابعا: الأسئلة الجديدة التى يطرحها اليسار الأوروبى المعاصر وأهميتها للفكر الإنسانى. خامسا: الخريطة الديناميكية للأحزاب والحركات اليسارية فى أوروبا. ويشير بوضوح، المفكر والمؤرخ الماركسى الأشهر بيرى أندرسون (1938 ، مؤلف المرجع المعتبر: أصول الدولة الاستبدادية) إلى أن تيار اليسار ما بعد الجديد, يتميز عن اليسار الكلاسيكى، ومحاولات تجديده فى حقبة الستينيات من القرن الماضى، بأنه أكثر احساسا بتفاعلات الجنس البشرى مع بيئته المحيطة، الغائبة جوهريا عن الماركسية الكلاسيكية. (راجع كتاب أندرسون: فى دروب المادية التاريخية). كما أنه متحرر من العبئين الفكرى والحركى...كيف؟ أولا: على المستوى الفكري, يعد اليسار ما بعد الجديد أكثر تحررا من الماركسية التاريخية التى ارتبطت بتفسيرات: لينينية، وتروتسكية، وماوية،...إلخ. حيث استفاد من التراث النقدى الذى قام به اليسار الجديد فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى. وحاول أن يتفهم المستجدات التى طرأت على المجتمع الحديث فى ظل العولمة والثورة التكنولوجية. وحاول أن يقرأها قراءة طازجة لا قراءة سابقة التجهيز. وفى هذا سوف يجد القارئ أدبيات اليسار ما بعد الجديد، ليس فقط نصوصا نقدية، وإنما أفكار راديكالية فى العديد من المفاهيم والموضوعات مثل: التاريخ، والديمقراطية، ودور الطليعة المثقفة، والأخلاق، والطبقة/الطبقات، ووصف العامل الثورى، ومحورية/مركزية الطبقة العاملة،...،إلخ. وحول هذه القضايا يمكن الاستزادة من كتاب: «المفكرون الأساسيون: من النظرية النقدية إلى ما بعد الماركسية»، (صدر فى 2006 بالإنجليزية وترجمه الأستاذ الدكتور محمد عنانى فى 2016 المركز القومى للترجمة ودار المحروسة). كذلك الاشتباك والتواصل مع ملفات مستجدة مثل: قضايا ما بعد النسوية. والصراعات المتعلقة بالهوية. كذلك ما جد على الخريطة الطبقية مع الطفرات التقنية فى الزمن الرقمى. وكارثة اللامساواة التاريخية بين القلة الثروية والكثرة المواطنية الفقيرة. والرأسمالية الجديدة. والتحولات التى طرأت على الدولة الأمة بفعل العولمة ونزوع القوميات الفرعية إلى الاستقلال وتنامى الإشكاليات المتعلقة بمسألة المواطنة بأبعادها. وصعود الإمبرياليات الجديدة من خارج الدائرة الغربية. ثانيا: على المستوى الحركي؛ سوف نلحظ أن رموز تيار اليسار ما بعد الجديد متحررون من الهيمنة الحزبية. حيث يتحركون كتيار يهدف إلى التأثير فى المجتمع عبر قنواته المتعددة. دون أن يرتبط بحزب بعينه. مثلما كانت الصلة التى تربط لينين بالديمقراطية الاشتراكية الروسية، أو تربط جرامشى بالحزب الشيوعى الإيطالى. فالواقع أن إحدى خصائص فكر اليسار ما بعد الجديد هى ابتعاده الواعى، فى ظنى عن النضال الفعلى للأحزاب والحركات والمجموعات الاجتماعية. وإن كان هذا لا يعنى أنهم معزولون عن جديد الحركات المطالبية والاحتجاجية. بل سنجد أن كثيرا من الحركات الأوروبية التى بزغت فى العقد الأخير مثل: حركة بوديموس الإسبانية، وغيرها، تستلهم أفكار إرنستو لاكلاو وشانتال موف، وآخرين. (يمكن مراجعة كتاب: بوديموس: باسم الشعب, لشانتال موف 2016. ودراسة اليسار الشعبى فى إسبانيا 2015). لقد مكن التحرر الفكرى والسياسى لرموز اليسار ما بعد الجديد أن يتواصلوا مع المواطنين مباشرة من جهة. وأن يؤثروا فى الحركات المواطنية النشطة بأنواعها المختلفة من جهة أخرى. دون ادعاء الهيمنة السياسية. وذلك من خلال أفكارهم الراديكالية الحرة التى تؤكد فكرتين أساسيتين هما: الحرية، والمساواة. وتلفت النظر إلى انتهاء صلاحية المعادلة السياسية القائمة منذ الحرب العالمية الثانية التى تقوم على تبادل السلطة بين يمين الوسط ويساره. أو التسوية التاريخية السياسية التى ارتضتها اوروبا الغربية. وفى المقابل هيمنة الحزب الشيوعى فى طبعته اللينينية/الستالينية فى أوروبا الشرقية. وأنه آن الأوان من أجل خلخلة البنية السياسية القائمة منذ عقود لاستيعاب حركة المواطنين الأوروبيين الساعين نحو تأسيس جديد على المستويات: المؤسسية، والفكرية، والنخبوية، والسياسية،...،إلخ. أو ما وصفناه بالنزعة المواطنية الجديدة أو السيتيزينيزم فى عموم أوروبا. (راجع سلسلة مقالاتنا المعنونة ب: المواطنيزم). وفى هذا الإطار، يرصد لنا كتاب: النصف اليساري: خريطة النظرية النقدية والراديكالية اليوم (2015)، أفكار أكثر من 30 مفكرا بارزا ممن لهم تأثير فى الواقع الأوروبى الراهن مثل: روبرت كوكس، ودافيد هارفى، طونى نجرى، ومايكل هاردت، ونانسى فريزر، وفردريك جيمسون، وإريك أولين رايت، وجيوفانى أريجى، وسلافوى جيجيك، وجوديث باتلر، وجاك رانسيير، وغيرهم...ومن جانب آخر يرصد لنا كتاب خريطة اليسار الأوروبى الحزبى والحركى فى أكثر من عشرين دولة أوروبية ( الصادر عن مؤسسة روزا لوكسمبورج 2016، وغيره)، الحركات والأحزاب اليسارية الجديدة والصاعدة ذات البعد الإنسانى وتمثيلها البرلمانى فى دولها من جانب وفى البرلمان الأوروبى من جانب آخر. كذلك تحالفاتها مع أحزاب مثل الخضر أو حركات جديدة....ونتابع الحديث عن اليسار الأوروبى. لمزيد من مقالات سمير مرقس