كان مبهجا، ومفرحا، وأثلج الصدور، حفل افتتاح بطولة الأمم الافريقية قبل أيام. ساعتها هتف الهاتف فى أرواحنا جميعا ونحن نتفرّج : نعم مصر تستطيع.. ثم جاءت صافرة قاضى الساحة (الحَكَم الكاميرونى) إيذانا ببدء مباراة الافتتاح.. وبدأنا فرأينا منتخبا على قدر المسئولية؛ يتعاون لاعبوه فى لعب جماعى، ويمررون صح، وينتشرون على أرض الملعب انتشارا إلى أن أحرز عم تريزيجيه الهدف ففززنا كلنا من مقاعدنا، وصفقنا، وهتفنا فى صوت واحد: تحيا مصر.. ثم باغتنا الشوط الثانى (كأننا لم نكن ننتظره) فهمسنا لأنفسنا: واويلتاه! ياربّ الكون.. ما هذا؟ نظرنا فرأينا فركشة غير جديدة علينا، وتراجعا يحمل فى طيّاته الخوف، وميس باص (على وِدنه)، وتوهانا غير متوقع من درة التاج صلاح فلا هو رأس حربة صريح ولا هو وينج.. فبدا كمن يبحث عن ربع جنيه معدن سقط منه.. وساعتها حانت لحظة الحقيقة.. وأفقنا فإذا ذكريات آفتنا الكبرى عادت إلينا (آفة عدم القدرة على الاستمرار للآخر).. ولم تخرجنا من تلك الحالة إلّا صافرة الحكم (الله يستره). يا ناس.. قلنا - وقال الخبراء قبلنا ألف مرّة: كرة القدم شوطان وليست شوطا واحدا.. بل إن الثانى هو الأهم .. يا خلق الله ينبغى علينا أن نضع تلك الحقيقة فى اعتبارنا دائما، وأن نجعلها كالقرط فى آذاننا.. فلماذا لا نفعل؟.. عادى جدا.. (عادتنا ولّا ها نشتريها)؟.. نحن هكذا طوال أعمارنا؛ نبدأ بمنتهى الحماس والقوة كما الإعصار الهائج، ثم ما نلبث، كالإعصار أيضا، أن ننطفئ ونخفت ونتراخى فتتلاشى الحماسة فينا كشمعة ذاب فيها فتيلها بعد أن كانت قد قاومت الظلمة وبعثت فى النفوس الأمل. .. وللعلم.. إن هذا الأمر فينا ليس وقفا على كرة القدم وحدها، بل هو ممتد إلى كل مجالات حياتنا.. وفى كل محاولاتنا السابقة فى النهوض للدخول إلى العصر الحديث.. وسل إن شئت العالمين بتجارب محمد على والخديو إسماعيل وعبدالناصر ومن بعده السادات فى عقب نشوة نصر أكتوبر الخالد. أتراه قدرا مقدورا علينا.. أم هو جين خبيث كامن منذ الأزل فى تلابيب الروح وثنايا العقل مكلبش فى الأذهان كالعلقة؟ الحقيقة أنه لا هذا ولا ذاك ولا تلك.. إذن فأين العيب بالضبط؟ إنه فى طريقة تفكيرنا وفى أسلوب تعاملنا مع الحياة. إننا ببساطة لا نفكر بشكل علمى، بل كثيرا ما نعتمد على حلول ستأتينا من الغيب، أو ببركة دعاء الوالدين (وانزل يا واد الملعب وهات جون).. وهذه طرائق لا تطعم جائعا، ولا تحقق تقدما، ولا تحرز أهدافا فى شبكة.. وبالتبعية لا تأتى لك ببطولة (خاصة هذه الأيام). إن الكثيرين ليتعجبون، وكأنهم يبحثون عن سر أسرار الكون، كيف لدول لم تكن موجودة أصلا ونحن نصنع حضارة هزّت أعطاف الدنيا كلها أن تنهض هكذا فتناطح السحاب، بل وتكاد تهرسنا تحت أقدامها هرسا (لا تصدق؟ إذن فاذهب لترى كيف يمزق العرب الأماجد بعضهم شر ممزق، بينما أعداؤهم جالسون يتضاحكون).. فلماذا يا ترى؟ لأن هؤلاء الآخرين يفكرون بطريقة ليست كطريقتنا.. ويخططون لحياتهم.. ويلعبون على الهجمة المُرتدة.. والأهم إنهم يجيدون إنهاء الهجمة! يجيدون ماذا يا باشا؟ .. نعم يجيدون إنهاء الهجمة. كيف يعنى؟ سأقول لك: إنهم يتركون الخصم يناور ويداور ويباصى إلى أن تنقطع أنفاسه وينهدّ حيله، بينما يستحوزون هم على منتصف الملعب ويحصنون دفاعاتهم جيدا، ثم فى لحظة يخطفون الكرة ويلعبون بسرعة فائقة إلى أن يبلغوا مرمى الخصم.. ثم فى جزء من الثانية تصرخ المدرجات: جووووووول! إنهم لا ينجزون ذلك بعشوائية ولا ببركة دعاء الأمهات، وإنما بالتخطيط للمباراة، ودراسة نقاط ضعف الخصم.. وقبل ذلك معرفة نقاط قوتهم هم.. فهل نفعل نحن ذلك؟ أبدا . إننا بعد الشوط الأول (بل ربما خلاله) ترانا نتعجل، ونتهرجل، ونتتعطفش كدجاج مذعور فى عِشّة.. ونتنافس فى تطفيش الكرة، (والعب طويل يا جدع).. وتكون النتيجة أن نفقد عافيتنا بسرعة وتصيبنا الدروخة والدوخة، فيركب الخصوم الماتش، لنصبح لقمة سائغة بين أقدامهم.. (ونترزع الجون)! قل لى: ألست تجد بعضا من هذا فى كثير من المجالات عندنا.. فكيف ننحو باللائمة على الدهر (وما بزماننا من يستحق اللوم سوانا)؟ يا سادة.. علّموا أبناءكم، منذ نعومة أظفارهم (فى الأسرة، ودور الحضانة، وفى المساجد، والكنائس، والأندية) أن إنهاء الهجمة أهم من بدئها بكثير، وأن المثابرة والصبر والدأب والاستمرار حتى الذراع الأخيرة فى السباق (وأن تهزم تعبك بتعب أكبر منه).. كل ذلك هو سر النجاح (بل وبقاء الحياة). قولوا لهم: لا يصح أبدا أن أبدأ المباراة أو السباق متحمسا منطلقا كالرهوان دون أن أن تكون هناك خطة لتنظيم جهدى وتوزيعه على الوقت كله. لا يجب أبدا أن ألعب بعشوائية فأفقد لياقتى البدنية والذهنية بسرعة، فإذا بى اضطر إلى اللعب الطويل الاهبل الطائش بلا هدف فيركب منافسوك الملعب ويقطعونك يسارا ويمينا (وفى النُص).. حتى لو كان معك الموهوب صلاح! يعنى ماذا تريد يا عم بالضبط؟.. ماشى. اسمع يا سيدى.. من الآن فصاعدا يجب أن يكون هدفنا الأسمى، وغايتنا الأعظم، ليس فى الملعب فقط بل فى أنشطتنا جميعها، الهدوء والرزانة فى اللعب وعدم الاستعجال وأن نجعل من تطفيش الكرة (والتزويغ منها ومن كل ما نكلف به) عدونا اللدود فنقاومه أعتى مقاومة.. وإن شاء الله ها ناخد البطولة. لمزيد من مقالات سمير الشحات