نفذت الدولة خلال السنوات الخمس الماضية عددا غير مسبوق من مشروعات البنية التحتية في مجالات الطاقة والطرق والمياه والصرف وتوسيع الرقعة العمرانية، وقد كان لهذه المشروعات أثر واضح في إنهاء الاختناقات في هذه القطاعات، لكن هذه المشروعات نفسها كانت سببا رئيسيا لزيادة الدين العام، ولا يمكن الاستمرار بهذه السياسة إلى ما لا نهاية، فهناك حدود لا يمكن بعدها زيادة الدين العام بشكل آمن. لقد تنبهت الدولة لهذا الأمر بالفعل، ونجحت في الحد من عجز الموازنة، وتخفيض نسبة الدين العام للناتج المحلي، غير أن تحقيق هذا الهدف يجب ألا يكون على حساب مواصلة تطوير البنية التحتية، فمشوار تطوير البنية التحتية في مصر مازال طويلا جدا؛ فطبقا لتقرير أعدته مجموعة العشرين عن احتياجات تطوير البنية التحتية عالميا، فإنه سيكون على مصر إنفاق 675 مليار دولار خلال العشرين عاما المقبلة لتطوير بنيتها التحتية، بمعدل يقترب من خمسة وثلاثين مليار دولار سنويا، وهو رقم ضخم يصعب على موارد الدولة المحدودة تحمله. نحن نواجه معضلة التوفيق بين ضرورات تطوير البنية التحتية من ناحية، وضرورات السيطرة على الدين العام من ناحية أخرى، ولا حل لهذه المعضلة سوى بتغيير الصورة النمطية التي استقرت في أذهاننا لعقود عن البنية التحتية باعتبارها نوعا من الخدمات التي لا يمكن، ولا يجب، إدارتها كمشروعات ربحية، تقع في نطاق الاختصاص والمسئولية الاجتماعية والتنموية للدولة، بحيث يكون على الدولة القيام بتمويل وبناء وإدارة هذه المشروعات كأنشطة خدمية لا تستهدف الربح، ومتاحة للكافة من الناس بغض النظر عن مساهمتهم في تحمل تكلفتها. المؤكد هو أن هناك مسئوليات اجتماعية وتنموية للدولة لا يمكن التخلي عنها تحت أي ظرف. غير أن التوسع في تعريف هذه المسئوليات يؤدي إلى إثقال الموارد العامة بأحمال فوق طاقتها، والأهم من ذلك هو أن تحميل الدولة بهذه الأعباء الإضافية غير الضرورية يؤدي تلقائيا إلى إهمال المجالات التي يجب على الدولة عدم التخلي عنها أو إهمالها، والتي تنحصر في التعليم والصحة والحماية الاجتماعية. أما ما عدا ذلك من مجالات فهي خدمات وسلع تماثل أي سلعة أو خدمة أخرى، فإذا كان الأصل في إنتاج السلع والخدمات هو أنها أنشطة اقتصادية تستهدف الربح، فإن ذلك يسري أيضا على المجالات الكثيرة التي يتم جمعها خطأ تحت لافتة عريضة اسمها البنية التحتية. يشتري المواطن سيارة ميكروباس، ليقوم بتشغيلها للسفر بين المحافظات، ويحقق من وراء ذلك ربحا، ينفق منه على أسرته, ويدخر منه جزءا لشراء سيارة جديدة عندما تتهالك سيارته, وربما استطاع توسيع نشاطه، فيشتري سيارة إضافية يؤجرها لأحد السائقين، لتدر عليه المزيد من الدخل. إذا كان الاستثمار في الميكروباس يسير بهذه الطريقة، فلماذا لا تسير الأمور بالطريقة نفسها عند الاستثمار في القطارات التي تقدم الخدمة نفسها التي يقدمها الميكروباس، بل وبكفاءة أعلى؟. تتجه الحكومة لضخ استثمارات هائلة لتطوير قطاع السكك الحديدية، سواء من أجل تحديث البنية المتهالكة في الخطوط القائمة بالفعل، أو لإنشاء خطوط جديدة ذات مردود تنموي فائق، من نوعية سكك حديد العين السخنة - العلمين الذي تقدر تكلفته بعدة مليارات من الدولارات، فلماذا لا يسهم القطاع الخاص في مشروعات السكك الحديدية؟ لماذا لا يقوم أحدهم بشراء وتجهيز وتشغيل قطار يعمل على خط القاهرة - الإسكندرية، وفقا لقواعد الأمان والجودة التي تضعها الحكومة، ويدفع مقابل استخدام القضبان والمحطات، فيخفف العبء عن ميزانية الدولة، بل ويسهم في زيادة دخلها. لماذا لا ترخص الدولة لأحدهم لإنشاء خط حديدي بين محطة مترو المنيب والمريوطية، فيربط الملايين التي تعيش في هذه الأعماق العشوائية المهملة بشبكة مترو الأنفاق؟ لماذا لا ينشئ أحدهم خطا حديديا يربط نواحي حي المعادي المترامي الأطراف بمحطة طرة أو ثكنات المعادي لمترو الأنفاق؟ ألن تحسن مثل هذه المشروعات من البنية التحتية، وتجعل حياة الناس أكثر سهولة، دون أن تكلف الدولة مليما واحدا؟ ألن تخلق مثل هذه المشروعات فرص عمل، وتضخ رسوما وضرائب في ميزانية الدولة؟ لم يدخل الصرف الصحي إلى القاهرة إلا في عام 1914، وإلى اليوم مازال نصف سكان مصر محرومين من الصرف الصحي. يستخدم المحرومون من الصرف الصحي ما يسمى الترنش، وهو خزان للسوائل يتم بناؤه تحت البيت، ليستقبل المخلفات الناتجة من الاستخدام المنزلي للمياه. بشكل دوري يأتي أحد المتخصصين، ومعه سيارة نقل وعمال، لتفريغ الترنش، مقابل مبلغ مالي. المؤكد أن القائم على تفريغ الترنش لا يفعل هذا من قبيل التطوع وفعل الخير, والمؤكد أيضا أن تقديم هذه الخدمة يعود عليه بربح يساوي ما كان له أن يحصل عليه لو أنه استخدم سيارته لنقل أغراض أخرى، بالإضافة إلى تعويض مناسب عن التكلفة النفسية والصحية والاجتماعية المترتبة على التخصص في تفريغ الترنشات. ماذا لو تم الترخيص لمستثمر لبناء شبكة صرف صحي في إحدى القرى أو أحد الأحياء المحرومة؟ ماذا لو التزم هذا المستثمر بكل ما تفرضه الحكومة من معايير واشتراطات للحفاظ على السلامة والبيئة ومعالجة المياه وإعادة تدويرها. ألا يحق لهذا المستثمر الحصول على أرباح تساوي ما يحققه مفرغو الترنشات؟ ألا يحق له أن يحقق ربحا أعلى بسبب التحسين الكبير الذي يحدثه في البيئة وجودة الحياة؟ ألا يؤدي قيام القطاع الخاص بالاستثمار في الصرف الصحي إلى الحد من حاجة الحكومة للاقتراض، ويوفر علينا تبعات ارتفاع الدين العام؟ ألا يحرر فتح هذا المجال أمام الاستثمار الخاص موارد الحكومة ويسمح لها بمزيد من الإنفاق على التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية؟ هذه مجرد أمثلة لمشروعات بنية تحتية يمكن للقطاع الخاص الاستثمار فيها. هناك حلول كثيرة لمشكلاتنا, فقط نحتاج إلى رفع الغشاوة عن أعيننا، والتفكير خارج الصندوق؛ تلك العبارة التي كثيرا ما نرددها، وإن كنا نحتاج إلى العمل بها أكثر، وترديدها أقل. لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد