حالة من التناقض الصارخ يعيشها عالمنا العربى حاليا. ففى الوقت الذى تتزايد فيه أعداد الجامعات وخريجيها فضلا عن حملة الماجستير والدكتوراه، واللهاث لجلب أحدث الأجهزة التكنولوجية، وتطور تقنيات الاتصالات والمعلومات، وشهرة الكثير من العلماء والباحثين العرب بالغرب، فإن الشرق يتراجع على مستوى إنتاج العلم والممارسات العقلانية، وتغيب عنا الثقافة والمعرفة العلمية..كيف إذن يمكننا أن نخطو إلى المستقبل آمنين؟ وهل يمكن إعادة اكتشاف وتجديد العقل العلمى العربي؟..تساؤلات يحاول أستاذ فلسفة العلوم د. خالد قطب الإجابة عليها فى كتابه «العقل العلمى العربي..محاولة لإعادة الاكتشاف» الصادر مع عدد المجلة العربية فى مايو الماضى. يوضح قطب أن المقصود بالعقل العربى العلمى هنا هو «ذلك الإنتاج العلمى الذى أنتجه هذا العقل ليكًون فى النهاية أنواعاً متعددة من العلوم الطبيعية و الرياضية». و يتميز هذا العقل بالخصوصية التاريخية بوصفه ينتمى إلى الحضارة العربية، و من ناحية أخرى يتميز هذا العقل بأنه منفتح على الآخر العلمى لذا فإن إعادة اكتشاف العقل العربى العلمى تعنى إعادة النظر النقدى فى منتج هذا العقل وأن يتم تشكيله على أسس علمية و ذلك بإعادة النظر فى تراثنا العلمى العربى الذى يحمل بين جنباته رؤى نقدية و تحليلية فى النظر إلى الأشياء، و إعادة قراءة تاريخ العلم بأسره قراءة نقدية و تحليلية، فعن طريق هذا التراث العلمى العربى يمكن أن نستلهم منه المنهج العلمى النقدى الذى أصبح ضرورة حضارية و نحن نسعى إلى تحقيق تقدم علمى و نهضة علمية فى عصر أصبح العلم فيه صاحب الكلمة المسموعة، و أقرب الطرق للمعرفة الصحيحة. يرصد أستاذ فلسفة العلوم أهمية محاولات تأريخ العلم العربى فى النصف الأول من القرن العشرين، خاصة بعد ظهور فلسفات علم ما بعد الاستعمار فى الغرب، معتبرا أن أفضل وسيلة لتجديد العقل العلمى العربى ربما تكمن فى إعادة النظر فى المناهج التأريخية المختلفة التى قدمها بعض الباحثين العرب عند تأريخهم لتراثنا العلمى العربى بهدف استيعاب وفهم هذا المنهجيات وتجاوزها من أجل تطويرها والإضافة لها انطلاقا من إيمانه بأن الوعى بتاريخ العلم هو طريق التقدم العلمى لذا فهو يرصد محاولات تأريخ وتغريب العلم، ونقد محاولات تغريب مفهوم العلم الحديث، وكذلك مناهج تأريخ العلم العربى، وينتقدها خاصة التأثير السلبى الذى خلفته النزعة التراثية الإنشائية فى التأريخ العلمى العربى التى حولت تأريخ العلم إلى سجل تاريخى لحياة العلماء والأحداث التى عاشوها، وبرزت فيها نعرة التفاخر المبالغ فيه بالانجازات العلمية العربية، الأمر الذى غيب التناول المعرفى المنهجى عن تلك المحاولات مما أدى إلى صعوبة فهم هذه التراث وتحويله إلى مشروع حضارى ونهضوى. فى محاولة للاستكشاف أسباب غياب العقل العلمى عن بعض مشاريعنا الفكرية؛ يستعرض قطب تبريرات وإسقاطات المشروعات الثقافية الفكرية النهضوية العربية فى محاولاتها لتفسير أزمة العقل العربى والبحث عن حل لأزمته سواء بإرجاعها إلى سيطرة الدين والقبلية والسلطة على العقل العربى مما يضعف من محاولاته لممارسة التفكير العلمى الموضوعى المنزه وبالتالى يعوق نهضته العلمية أو حتى إرجاعها إلى ظروف اجتماعية وسياسية خارجة عن البنية النظرية للعقل العربى، وتجاوبا مع أزمة التشكيك فى إمكانية وجود وتكون العقل العلمى من الأصل والقول إنه لم يكن ذا تأثير يذكر، وهل يمكن للإنسان العربى أن يقبل بتلك الحقيقة المرة ويقتنع بأنه لن يرقى إلى مستوى التقدم والتفكير العلمي؟ يرى قطب أنه لكى نتجاوز هذه الحيرة فإن علينا قراءة المشاريع الفكرية العربية قراءة استيعابية وتجاوزية فى الوقت ذاته للوقوف على إسهاماتها وتجاوز الطرح المقدم وفق متطلبات الواقع من أجل تقديم رؤية مستقبلية جديدة ، لافتا إلى أن معظم تلك المشاريع الفكرية أظهرت العقل العلمى العربى على أنه عقل مستقل عن المنظومة المعرفية والأيديولوجية السائدة فى الحضارة العربية واعتبرته عقلا غير منحاز سياسيا أو أيديولوجيا مما جعله بعيدا عن أى تأثير فى الثقافة العربية ، فما أنتجه الخوارزمى والبيرونى وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم الكثير كان خارج الثقافة العربية الإسلامية ومن ثم لم يكن له أى تأثير على بنية العقل العربى الأمر الذى أدى بنا إلى هذه الحالة من اللاعلمية سواء على المستوى التأسيسى النظرى أو التطبيقى العملى. يقدم أستاذ فلسفة العلوم قراءة موجزة فى بعض المشروعات الفكرية التى طرحت نقدا للعقل العربى مع التركيز على مشروع محمد عابد الجابري، منتقدا رؤيته التى خلص لها حول اعتقال العقل العربى داخل منظومات فكرية وأيديولوجية محددة هى التى تحركه وتشكل منطلقاته الفكرية والسلوكية ، مما جعله لا يعير العقل العلمى العربى اهتماما لأن من وجهة نظر الجابرى أن بنية العقل العربى ليست علمية وهو ما اقتنع به الجابرى كسبب لغياب العلم والتجربة كعنصر محرك للتقدم العلمى فضلا عن كون ذلك كان أحد الأسباب وراء فشل الفلسفة العربية فى الصمود والانتشار وتعميم العقلانية كما فعلت الفلسفة اليونانية القديمة. ويأتى تغييب العلم والتجربة عن الثقافة العربية بسبب المنظومة المعرفية للعقل العربى التى تعتمد على ثلاثة علوم هى علوم البيان والعرفان والبرهان. تلك التى فرضت على العقل العربى التعامل مع النصوص على اختلافها دون اعتبار لأسرار الظواهر الطبيعية مما أدى لإنكار السببية الطبيعية ولهذا يرى الجابرى أن الممارسة العلمية التجريبية التى وجدت فى التراث الفكرى العربى كانت تتم خارج المنظومة المعرفية التى سادت هذا التراث . يخلص قطب إلى أن الكتابات التى تناولت العقل العربى وبنيته انتهت إلى أن هذه البنية تتحدد فى الفقه، أو هى بنية فقهية فى الأساس حيث يعبر الفقه عن أصالة العقل العربى الإسلامى لذا طالبت كل المؤلفات والمشروعات الفكرية بضرورة تجديد العقل الفقهى تمهيدا لتجديد الخطاب الدينى وتجاهلت تماما العقل العلمى العربى فغذت القطيعة بين العقل العلمى والعقل الفقهى التقليدى.