السنوات الماضية فى حياة مصر كانت غنية بإعداد الدساتير وتعديلها وإطلاق الإعلانات الدستورية، وفى كل مرة كانت هناك صفتان تحرص أغلبية المواطنين على ذكرها فى كل هذه الوثائق وهما صفتان تتعلقان بالدولة: مدنية وحديثة. يمكن ببساطة أن نفهم من صفة المدنية أنها تتعلق بمبدأ المواطنة أى مساواة المواطنين باختلاف الجنس والعرق والدين واللغة أمام القانون. ولكن إذا أردنا أن نوضح معنى المقصود لكلمة حديثة، لوجدنا الأمر أكثر تعقيدا. فالدولة ظاهرة قديمة موجودة لها مهام محددة منذ بدايات الاجتماع العمرانى، وحرصنا على استخدام تعبير دولة حديثة يعنى ضمنياً التمييز بين دولة قديمة وأخرى حديثة. فإذا كان دور الدولة عبر العصور هو إدارة شئون البلاد وإعداد القوانين التى تحكم سلوك الأفراد، فما الجديد الذى طرأ لكى يتم التمييز بين دولة حديثة ودولة قديمة؟ أعتقد أن الفارق يكمن فى ملمح أساسى هو مشاركة المواطنين فى اتخاذ القرارات السياسية وهو الأمر الذى لم يتحقق فى التاريخ سوى فى تجربة محدودة فى مدينة أثينا ولفترة قصيرة فى القرن الخامس قبل الميلاد وربما أيضا لدى بعض القبائل البدائية الهامشية. ولكن مشاركة المواطنين بصور شتى فى مختلف المجتمعات صارت ملمحا من ملامح عصرنا الحديث. وهذا يستدعى أن يتمتع الأفراد بحريات لم تكن لهم من قبل. أما فيما يخص السؤال حول هل حاجة الحكم فى العصر الحديث إلى تأسيس الشرعية على رضا الجماهير وجاجته إلى مشاركتهم عبر ممثلين لهم فى اتخاذ قرارات سياسية هى التى دفعت إلى منحهم حريات مثل الحق فى الانتخاب والتعبير عن الرأى، أم أن العكس هو الذى حدث، فحصولهم على مزيد من الحريات بفضل نشاطهم التجارى والصناعى هو الذى فرض على أهل الحكم القبول بمشاركتهم؟ ويمكن هنا أن نقول إن العلاقة ارتباطية وجدلية، أى هناك تأثير متبادل بين الجانبين. ويمكن أن نلاحظ أيضا أن انجلترا بدأت بالمشاركة السياسية، وقامت بعد ذلك المجالس المختلفة بوضع قوانين تكفل الحريات للأفراد فى حين أن الأمر فى فرنسا بدأ بالمطالبة بالحريات وتبع ذلك ترتيب شكل المشاركة السياسية للمواطنين. حينما ننخرط فى حياتنا الاجتماعية اليومية ونقارن بين مجتمعنا ومجتمعات أخرى سمحت لنا الظروف بالسفر والتعرف عليها، فإننا فى العادة نتذمر من وجود العديد من مظاهر التخلف التى نتمنى أن تختفى من المجتمع. ألم يكن من الأحرى إذن أن نطالب بمجتمع حديث بدلاً من دولة حديثة؟ الواقع أن المجتمع يتحول من مجتمع تقليدى إلى حديث عبر مسار طويل ومركب، كما أن ذلك يحدث بطريقة تلقائية تكاد تكون غير مقصودة. فإنشاء المصانع ومد خطوط المواصلات وفتح مؤسسات تعليمية، كل هذا يسهم فى تحول المجتمع إلى مجتمع حديث، ولكن المصانع والمواصلات والجامعات لم تنشأ لهذا الغرض، إنما لمساعدة الناس على تحقيق حاجاتهم المعيشية الضرورية. ويتميز المجتمع الحديث بغلبة استخدام التكنولوجيا فى العمل وترشيد الاقتصاد والديمقراطية فى الممارسة السياسية والعلمانية فى علاقة الدولة بأديان المواطنين وسيادة الثقافة العقلانية وتأسيس الأخلاق على النزعة الانسانية، وكلها أمور تحتاج إلى تراكم معرفى على مدى طويل. أما الدولة الحديثة فهى أمر مختلف لأنها تكتسب صفة الحداثة من خلال نظام الحكم الذى تعمل وفقا له، أى دساتير وقوانين ومؤسسات، وكلها تخضع لإرادة أعضاء المجتمع، ويمكن تأسيسها بقرارات مقصودة أصلاً لهذا الغرض. ولهذا فالدولة الحديثة تتميز بنظام الحكم الديمقراطى وبمؤسسات تدار بلوائح وتخضع لمنطق فى الأداء يتجاوز رغبات الأفراد العاملين فيها، وقوانين يشرعها ممثلو الشعب قابلة للتعديل والتطوبر مع متطلبات الحياة وتنطبق على الجميع بلا تمييز. هل هذه المواصفات للدولة الحديثة مطروحة أمامنا للاختيار، تختار منها ما نحب ونرفض ما نكره أو ما يخالف عاداتنا؟ الإجابة هى لا. هل هذه المواصفات إذن مفروضة علينا من قوى كبرى تريد أن تجبر دولتنا والدول المختلفة على هذا النظام تحقيقاً لمصلحتها؟ الإجابة أيضاً هى لا. لا هذا ولا ذاك، أى أنها ليست إختياراً يتم وفق رغبتنا كما أنها ليست انصياعاً لقوى امبريالية مهيمنة. هى اقتضاء. ويعنى ذلك أنه أمر يفرضه التطور العام لتاريخ البشر. ولاشك أن العاملين فى القطاعات المختلفة فى المجتمع مثل المستشفيات والبنوك والمؤسسات التعليمية يفهمون تماما معنى هذه الكلمة. ويعرفون أنهم لا يمكنهم العمل بكفاءة إذا أداروا ظهرهم للحداثة وليس أمامهم لتحقيق هذا الأمر ترف الاختيار. ربما يفهم البعض ان استخدامنا لمصطلح اقتضاء هنا قد يكون علامة مطمئنة على أننا سنصبح لا محالة دولة حديثة.توهذا فى الحقيقة وهم خادع. فليس اقتضاء التاريخ لأمر ما ضماناً لتحققه، ويكفى أن ننظر للدول من حولنا لنتعرف على محاولات الالتفاف والتلكؤ لتعطيل هذا الاقتضاء. وتقدم لنا الدول العربية ودول أخرى غيرها أمثلة كثيرة على هذا الهروب من تحقيق الاقتضاء. لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث