مصطلح «التراث» يظهر عادة فى ثقافات الشعوب عندما يشعر الناس بأنهم على أعتاب عصر جديد لم تعد طريقة العيش المعتادة ملائمة له. فالمصرى الذى كان يعيش فى العصر العثمانى أو المملوكى لا ينظر إلى العصر الفاطمى أو الأموى على أنه تراث، لأنه لم يتغير شىء لا فى نظم الحكم ولا القوانين ولا نمط الإنتاج. أما المصرى فى القرن التاسع عشر فقد تولد لديه شعور بأن كل هذه الفترات والعصور المذكورة قد أصبحت تراثاً وينبغى تبنى أسلوب جديد للعيش. ورغم ذلك فالاختيار ليس سهلاً، لأن التراث ليس معطفاً قديماً يمكن أن نخلعه ونمضى قدماً للأمام. كما أنه لا يجدى التمسك بالتراث والمحافظة عليه لأن فى ذلك معاندة للتاريخ الذى يفرض علينا أحكامه دون أن يستأذننا. ومن هنا فقضية التراث معضلة أو ورطة كبيرة حيث لا يمكن ببساطة التخلى عنه ولا يمكن التمسك به. فى البحث عن طريق للخروج من هذه الورطة يمكن لنا أن ننظر إلى تجارب الأمم المعاصرة لنا. ولنقارن بين اليابان الآن واليابان فى القرن التاسع عشر، فى عصر الساموراى. سنجد التغير قد شمل كل نواحى الحياة، ورغم كل هذا ظل فى اليابان شىء من تراثها يحفظ لها هوية خاصة تميزها عن الهند أو فرنسا. هذه المحصلة النهائية جاءت بشكل عفوى غير مقصود. الشىء الإرادى الوحيد الذى تم اختياره بوعى في اليابان هو برنامج «التحديث». المفكرون عادة يشعرون بطبيعة التحديات التاريخية التي تواجه شعباً من الشعوب، ويتلمسون طريقاً لتمكين الشعب من تقديم الاستجابة الملائمة لهذا التحدى. ويمكن في حالتنا العربية أن نرى بوادر ذلك لدى رفاعة الطهطاوى حينما ترجم الدستور الفرنسى فى كتابه تلخيص الإبريز فقد قال معلقا على مواد هذا الدستور بأنه رغم أن أغلب مافيه ليس فى القرآن والسنة ولكنه نافع لتحقيق مصالح العباد. لقد شعر الطهطاوى بأن علينا أن نقدم صيغة جديدة فى نظام الحكم وعلاقة جديدة بين الحاكم والمحكومين، وهذه الصيغة الجديدة لن يجدها العرب والمسلمون فى تاريخهم الذى امتد ثلاثة عشر قرناً. وليس ذلك لعيب فى العرب أو المسلمين فهكذا كان حال جميع الشعوب. فهذه الصيغة لم توجد لدى أى شعب آخر ولا أى ثقافة أخرى، وإنما فرضتها الحداثة فرضاً مع دخول البشرية فى العصر الصناعى. إذن لا جدوى من البحث عن هذه الصيغة فى تراثنا لأنها غير موجودة، فهل لو تم تبنى هذا النظام الجديد في الحكم سيعنى ذلك التخلى عن التراث؟ سنجد أمثلة كثيرة تبين كيف حاول مفكروالنهضة تحقيق اقتضاءات الحداثة مع عدم التخلى عن التراث. فعلى سبيل المثال أدرك قاسم أمين أن تعليم المرأة ودخولها مجال العمل شرط أساسى من شروط الحداثة، ورغم ذلك لا يمكن أن نقول ببساطة إن الدين أمرنا بهذا، لأنه أمر لم نره يتحقق خلال ثلاثة عشر قرناً. كتاب قاسم أمين عن تحرير المرأة ملىء بالرجوع إلى النصوص الدينية ليثبت شيئاً بسيطاً ولكنه مهم، هو أن تعليم المرأة وعملها لا يتعارض مع الإسلام. تعبير «لا يتعارض» هذا كان هو الحل. فتحرير المرأة ليس أمراً من أوامر الدين لكن تنفيذه لا يتعارض مع الدين. وسار على هذا المنوال أغلب مفكرى النهضة. مثلا أحمد لطفى السيد يرى أن الهوية القومية عمادها وحدة الأرض والمصلحة وبالتالى يمكن للدولة أن تضم أشتاتاً من أصول مختلفة: عرب وشوام ويونان وإيطاليين، ومسلمين ومسحيين ويهود، كلهم مواطنون متساوون فى الدولة طالما يعيشون على أرضها، وهذا، في نظره، لا يتعارض مع الدين. ومحمد حسين هيكل كان يرى ضرورة إصلاح الأحوال الشخصية وإجراء الطلاق أمام القاضى وإلغاء نظام الأوقاف وتطبيق القانون الوضعى وليس أحكام الشريعة، وكان مع ذلك كاتباً إسلامياً كبيراً معتزاً بثقافته الإسلامية ومتمسكاً بتحقيق إقتضاءات الحداثة. وهكذا أيضاً كان حال على عبد الرازق عندما بين أن الاسلام لم يفرض نظاما معينا للحكم. تحتوى إذن ثقافتنا المعاصرة على تيارين رئيسيين، التيار الأول يشمل رافضى كل تجديد ممن يتصورون أن التراث يملي علينا أوامر لا نملك إزاءها إلا الطاعة والتنفيذ، ويندرج في هذا التيار كل ممثلي الإسلام السياسي بصوره المختلفة. وتيار آخر يرى أنه ينبغى أن ننفتح على كل جديد من أجل تطوير مجتمعاتنا وإلحاقها بالحداثة، وأن هذه الغاية لا تتعارض مع الدين. ممثلو هذا التيار الثانى يطلقون خصومهم عليهم من باب «المفكرين العلمانيين». وهى فى الواقع تسمية دقيقة لأنهم مفكرون حريصون على ثقافتهم الإسلامية وفى الوقت نفسه يكافحون من أجل صياغة حديثة للمجتمع تفرض الفصل بين الدين والدولة. لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث