لم تكد تمر ستة أشهر على تولى رئيس البرازيل اليمينى المتطرف، جيير بولسونارو، مهام منصبه فى يناير الماضى عقب تحقيقه فوزا ساحقا فى الانتخابات فى أكتوبر الماضي، مستغلا الغضب الشعبى إزاء السياسيين اليساريين الذين تسببوا فى أسوأ ركود شهدته البرازيل وأكبر فضيحة فساد على الإطلاق، حتى تعالت أصوات المعارضة منتقدة أداءه السياسى والاقتصادى، وسرعان ما انخفضت شعبيته. حيث أشارت أحدث استطلاعات للرأى إلى أن نحو 36 % من الناخبين يعتبرون إدارته سيئة ومخيبة للآمال مقارنة باستمرار دعم 17 % فقط. جاء ذلك متزامنا مع إقراره تخفيض الميزانية المخصصة للجامعات والمؤسسات التعليمية فى البرازيل بنسبة 30 %، إلى جانب تقليص التمويل للجامعات الفيدرالية بشكل كبير، وذلك بالرغم من تعهده مرارا بتحسين نظام التعليم الضعيف فى البرازيل، إلا أنه أعلن اضطراره لتخفيض الإنفاق على التعليم، لأن هذا يعد جزءا من خطة خفض الإنفاق الحكومي. وقد تسبب قراره فى خروج عشرات الآلاف من الطلاب والأكاديميين والمعلمين إلى شوارع البرازيل، فى أول مظاهرات احتجاجية تشهدها البلاد منذ بدء حقبة بولسونارو، حيث اتهمه المتظاهرون بال «جهل»، وأنه سيمحو البرامج التعليمية الناجحة التى أطلقتها الحكومات اليسارية، والتى كانت تؤمن بأن التعليم هو السبيل لنهوض البلاد، كما اتهموا حكومته بأنها تريد تدمير كل شيء. فمنذ وصوله لسدة الحكم شعر كثيرون فى البلاد بالقلق من أن بولسونارو، ذلك السياسى المثير للانقسام باتجاهاته الفكرية اليمينية، لن يكون قادرا على توحيد الصف والخروج بالبلاد من مأزقها، بإستثناء قطاع واحد امتدح صعوده للسلطة وهو قطاع رجال الأعمال. فبولسونارو، الذى كان يتفاخر خلال حملته الانتخابية بأنه لا يفهم شيئا فى الاقتصاد، قام بمجرد فوزه بتفويض جميع القرارات المتعلقة بالاقتصاد إلى رجل الأعمال باولو جيديس، والذى عينه وزيرا للاقتصاد. وكانت مهمة إنقاذ الاقتصاد البرازيلى من الركود المهمة الأصعب حيث لا يزال الاقتصاد على نفس المستوى الذى كان عليه فى عام 2014. ورغم تحمس الأسواق للإصلاحات الليبرالية القادمة إلا أنه سرعان ما بدأت التوقعات بالانهيار حيث أدت سلسلة من الأخطاء الحكومية منها: النزاعات السياسية داخل الإدارة، والتى تتمثل فى الصراع الداخلى بين الفصائل الحكومية والصراع بين إدارة بولسونارو والزعماء الرئيسيين للبرلمان، حيث يفتقر حزبه الاجتماعى الليبرالى المحافظ للأغلبية، فضلا عن المحاولة الفاشلة لتدخل الدولة فى سياسة الوقود وغياب القيادة فى البرلمان إلى إعاقة توقعات النمو، مما دفع بعض المحللين وخبراء الاقتصاد للاعتقاد بأن النمو المرجو لن يبدأ قبل عام 2020. ففى العقد السابق، تمت الإشادة بالبرازيل (إلى جانب روسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) كأحدى دول ال «بريكس» وواحدة من الاقتصادات الناشئة ذات معدلات النمو الاقتصادى السريعة التى ستتجاوز الاقتصادات المتقدمة بحلول عام 2050، ولكن يشير الأداء الاقتصادى للعقد الحالى إلى أن البرازيل لا تنتمى إلى تلك الرابطة حيث شهدت البلاد ركودا خلال عامى 2015 و 2016 وانكماش اقتصادها بنسبة 7% تقريبا، وفى عامى 2017 و2018 نما الاقتصاد بوتيرة ضئيلة بلغت 1.1% سنويا. ومنذ بداية العام الحالى، خفض الاقتصاديون أكثر من نصف توقعاتهم للنمو الاقتصادى لعام 2019 إلى 1.6%، من تقدير قدره 2.5 % فى وقت مبكر من العام، خاصة بعدما صرحت هيئة الإحصاء بأن الناتج المحلى الإجمالى انخفض بنسبة 0.2 %، وهو أول انخفاض فى المؤشر الرئيسى للنشاط الاقتصادى منذ نهاية عام 2016، مما يثير المخاوف من أن أكبر بلد فى أمريكا اللاتينية أصبح مهددا بمواجهة ركود جديد. ويرى البعض أن هناك عدة أسباب وراء تراجع وتيرة الاقتصاد، بعد أن تضرر قطاع التعدين بصورة كبرى بعد اضطرار شركات التعدين لتعليق عملياتها فى عدة مناجم، وقلل من إنتاجها من خام الحديد وأضر بصادرات البرازيل، بالإضافة لانخفاض الصادرات إلى الأرجنتين بشكل كبير حيث تغرق الدولة المجاورة فى الركود، كما أن هناك حاجة إلى موجة من استثمارات القطاع الخاص للإسراع بالنمو، لكن الثقة تراجعت منذ تولى الرئيس جيير بولسونارو السلطة. وعلى صعيد آخر، تشكل زيادة نسبة البطالة أزمة حقيقية حيث ارتفع عدد العاطلين عن العمل من 7.6 مليون شخص فى عام 2012 إلى 13.4 مليون شخص هذا العام، كما أن الأشخاص الذين لديهم وظائف رسمية تكاد أجورهم بالكاد تواكب التضخم. فمنذ بداية الركود فى البرازيل منذ أربع سنوات، ارتفعت الأسعار بنسبة 25 %. والنتيجة أن البرازيل لا تزال غارقة فى الديون، وقد أرجع أغلب المحللين الاقتصاديين، وكذلك وزراء حكومة بولسونارو السبب فى ذلك إلى أن البلاد بدأت تنفق الكثير من الأموال فى عام 2013، خلال فترة حكم ديلما روسيف، والتى أقيلت وسط مزاعم بأنها تخفى العجز المالى فى البرازيل لإخفاء مقدار الإنفاق الزائد لحكومتها. ومنذ ذلك الحين، كان أحد أهم مقاييس الاقتصاد البرازيلى هو العجز المالي، ففى الأعوام السابقة بلغت الديون 51% من حجم اقتصادها، وارتفع العجز المالى المتزايد إلى 77.1%. وطبقا للخبراء فإن السبب الرئيسى هو نظام المعاشات التقاعدية، حيث يتقاعد البرازيليون فى وقت مبكر جدا (بعضهم فى أوائل الخمسينيات من العمر) وبكثير من الفوائد (خاصة موظفى الخدمة المدنية والهيئات الحكومية)، لذا يعد نظام التقاعد فى البرازيل أحد القضايا الرئيسية التى تخنق الاقتصاد، حيث كانت هناك صراعات لتوفير 260 مليار دولار لإصلاحات التقاعد. وقد اقترح بولسونارو تخفيض مكافآت المعاشات التقاعدية وجعل الحد الأدنى لسن التقاعد 65 سنة للرجال و62 عاما للنساء، وذلك بعدما هدد جيديس، وزير الاقتصاد والذى يقود أجندة الإصلاح الحكومية، بالاستقالة إذا لم يتم إقرار مشروع قانون التقاعد أو تخفيفه بشكل كبير، وقال جيديس فى احد تصريحاته: «إن الإصلاحات كانت أساسية لبدء النمو.. فلن نقوم بخدع سحرية بل بإصلاحات جدية»، مؤكدا انه إذا لم يتم فعل أى شيء، فستكون ديون البلاد بحجم اقتصادها بالكامل بحلول عام 2023.