محمد عيسي الشرقاوي : معلم في مدرسة باحدي القري. سنحت له فرصة رائعة, فقد رحب كاتب كبير باستقباله في مكتبه والتحاور معه, واضطرب المعلم اضطرابا عظيما, فقد كان يخشي من التلعثم في الكلام عندما يلتقي بالكاتب المشهور. لكن ماحدث كان مفاجأة سعيدة.. فلم تكد تمضي دقائق قليلة علي استقبال الكاتب الروسي انطون تشيكوف لضيفه, حتي تبدد قلق المعلم, فقد أشاع تشيكوف ببساطته وتواضعه دفئا انسانيا غمر اللقاء, وانطلق المعلم يتحدث بحرية وعفوية عما يعن له من آراء. وهكذا كان تشيكوف مبدعا في القصة القصيرة ورائدها في عالم الأدب, فقد كان انسانا عظيما ونبيلا, يلتصق التصاقا واعيا وصميما بدنيا الفقراء والمهمشين في الأرض.. ومن ثم, أضحي فصيحا وبليغا في التعبير عنهم وهذا هو الشرط الجوهري للابداع والكتابة وكان ملتزما به, ولذلك توهجت عبقريته الأدبية. والمثير للدهشة أن تشيكوف, برغم عشقه للقراءة, لم يفكر يوما في أن يصبح كاتبا لقد كان كل همه أن يدبر سبلا للانفاق علي دراسته, ذلك أن والده كان بقالا بسيطا في قرية بجنوب روسيا, فلما كسدت تجارته اضطر للرحيل مع أ سرته الي العاصمة موسكو بحثا عن فرصة عمل أفضل. وبقي تشيكوف في القرية كي يستكمل دراسته وواتته فرصة لكتابة مقالات هزلية في الصحف الاقليمية, فأقبل عليها باعتبارها السبيل المتاح لكسب مايعينه علي إعالة نفسه. وعندما أنهي دراسته بالقرية, انضم الي عائلته في موسكو, والتحق بكلية الطب.. واستمر في كتابة المقالات الساخرة, حتي يمكنه أن يساعد أسرته علي الافلات من شظف العيش. وذات صباح وصلته رسالة مدهشة من كاتب وناقد كبير, أثني فيها علي موهبته في الكتابة, وحثه علي عدم تبديدها, وهذا ماحدث عام1886, وكان تشيكوف آنذاك في السادسة والعشرين من عمره. وغيرت الرسالة مسار تشيكوف ومصيره, وكتب أدبا انسانيا رفيعا وعميقا, وتبوأ مكانة مرموقة بين أدباء روسيا الكبار وفي مقدمتهم تولستوي وماكسيم جوركي. وكان هؤلاء الأدباء, ينتقدون الأوضاع السياسية والاجتماعية المتردية. ولايروق لهم النظام القيصري والاقطاعي القائم, وكانوا يحلمون بعالم تظلله الأشجار السامقة للحرية والعدالة الاجتماعية. وأعرب تشيكوف عن غضبه وسخطه علي كل من يعترض سبيل تحقيق هذا الحلم. وكان يري أ ن الشخصيات التي يتسم طموحها بالانتهازية, وسلوكها بالتفاهة تعيث في دروب الوطن فسادا وانحطاطا, ولم يتردد في كشف أغوارها النفسية المعتمة, ويمكنك أن تفطن الي ذلك من خلال مسرحياته الرائعة( ايفانوف) و(الشقيقات الثلاث) و(نحال فانيا) وغيرها. ولعل قصته القصيرة فرحة كانت كاشفة لمقته للتفاهة ففي ذات ليلة لوح شاب يزهو بجريدة, وهو يقول لأفراد اسرته, لقد أصبحت مشهورا إن البلاد كلها تعرفني الآن. وأصل هذه الشهرة, أن قدمه انزلقت بينما كان يمشي في الشارع وهو يترنح من إفر اطه في احتساء الخمر, وسقط تحت عربة يقودها حصان وأصيب اصابة سطحية في مؤخرة رأسه, وكتبت احدي الصحف عن هذا الحادث. وهكذا أراد تشيكوف أن يكشف التفاهه والولع بالشهرة, حتي وأن كانت الفضيحة مصدرها, والطامة الكبري أن هذا الشاب أصبح صحفيا فضائحيا. أن الرؤية السياسية لدي تشيكوف كانت تنبع من الأخلاق الانسانية الرفيعة, ولم يكن يهتم بالحسابات الانتهازية للمكسب والخسارة, والتي تهدر شرف الانسان, وليس أدل علي ذلك من غضبه الشديد وانسحابه من أكاديمية الأدباء احتجاجا علي اقصاء السلطات لماكسيم جوركي منها, باعتباره مناهضا للحكم وطاغيا وكان ذلك عام.1901 وكأنه أراد بهذا أن يتوج حياته, وأن يكون ختامها رائعا بتحفته المسرحية بستان الكرز التي انتهي من كتابتها عام1903 وكانت آخر ما أبدع فقد مات في العام التالي متأثرا بداء السل, الذي كان ينغص حياته طوال سنوات. ان بستان الكرز فيما يري المثقفون, تعد الوصية الفكرية والسياسية لتشيكوف وجرت وقائعها حول البستان الذي فقد أهميته التجارية, ومن ثم أفلست صاحبته واشتراه تاجر جشع وحوله الي منتجع سياحي, ولم يكن في وسع أهل القرية أن يمنعوا تلك الكارثة بسبب فقرهم. لكن بطلة المسرحية تقول لهم, علينا أن نزرع بستانا آخر أكثر عطاء. وصار البستان رمزا للحكمة الكونية.. لامجال لليأس ان الحياة رغم مابها من غوغائية وعشوائية تلفظ في نهاية المطاف الجشعين والتافهين والانتهازيين ولايضيء دروبها سوي النبلاء. ان تشيكوف كأنه يعيش في عصرنا ويدرك أسباب مايلم بنا من مشكلات. ولايزال يحاول أن يبصرنا ويحذرنا.