«لقد عاشت جامعاتنا دائما، كما يقول استاذنا د.سليمان حزين فى كتابه القيم «حديث الشجرة» بأمرين لابديل عنهما فى حياة أى جامعة تدعى هذا الاسم العظيم, ألا وهما البحث بواسطة العقل وبواسطة العلم المتجرد عن حقائق الاشياء والبحث بواسطة الضمير وعن طريق السلوك السوى فى الحياة عما هو حق وطيب وجميل فى حياة الانسان. وقد تمثل هذا الجمع بين البحث عن الحقيقة والبحث عن الحق فى أن جامعتنا ربطت منذ ايامها السحيقة تلك بين ما أصبحنا نصطلح الآن على تسميته بالعلم والايمان: العلم بحقائق الحياة والخليقة من حولنا بما فيها حياة الانسان والإيمان بالخالق وبكل ما حلى به خليقته من القيم والمثل ومعانى الحق والخير والجمال» ولذلك أود أن اصطحب الكريم فى رحلة عبر الزمن أتحدث فيها عن تاريخ الجامعات والدور الذى قامت به والفكرة من ورائها. البداية أولا بمصر القديمة التى ازدهرت فكرة الجامعة فوق ارضها فى بعض العصور وضمرت فى بعضها الآخر لتعود مرة اخرى للإبهار فى دورات متعاقبة فبدأت بجامعة أون قرب الدلتا والتى اعتبرت اكبر مركز عرفه الانسان فى مصر كصيغة يمكن ان نعتبرها شبيهة بمدرسة اليوم, حيث جمعت بين فكر الدنيا وفكر الآخرة, واستمر هذا الاسلوب من التفكير والعمل على مر العصور واستغرق ذلك نحو خمسة آلاف سنة هى محصلة العهد الفرعونى وما قبله وكان ان ارتبط كل هذا بنهر النيل العظيم وفيضانه ومستوياته وبين نظام التقويم وحساب المواسم والاشهر والايام، كما ارتبط كل ذلك بالفكر الرياضى والعمل الهندسى حيث تزاوج ذلك كله وتمازج مع الروح وتأملها وممارسة العبادات وربط الحياة الأولى بالأخرى فى مزيج كان هو خلاصة العلم بمعناه الأولى والاشمل والاعم، بل ايضا بمعناه الذى سار عليه الفكر الجامعى خلال قرون عديدة جمعت فيها الجامعات التقليدية بين علم الدنيا وفكر الدين. ومثل أية متوالية طبيعية أو اجتماعية، ومثل أى تراكم كمى لابد أنْ يؤدى هذا إلى تغير كيفى، فقد حدث ذلك التغير فى مصر، فبعد اختراع الكتابة وورق البردى وأول أبجدية، كان لابد أنْ يتولد نظام تعليمى يحرص على تعليم الأطفال. حيث تم اكتشاف أكثر من مدينة بها مدارس، داخل المعابد وخارجها. منها العثور على آثار مدرسة حول معبد(الرمسيوم) وأخرى بدير المدينة بجبّانة طيبة. وفى المدينة التى أنشأها أخناتون تم العثور على أنقاض مدرسة (دار الحياة) وهى مكوّنة من بناءيْن. وأيضا على مدرسة فى مدينة (أون) عين شمس. ومدرسة للطب فى (سايس) ومدرسة فى أبيدوس وأخرى فى تل بسطة إلخ. كما تم الكشف عن ألواح كان التلاميذ يكتبون عليها دروسهم وبها ملاحظات المدرسين وتصحيح لبعض الأخطاء. وقد اطلق على مكان التعليم أكثر من اسم والاشهر هو (بر- عنخ) وتعنى دار الحياة. وعن أهمية التعليم عثر على بردية كتبها مدرس لتلاميذه يقول (إنّ كاتبًا واحدًا لأعز قيمة من بيت البانى ومن مقصورة فى الغرب (الحياة الأخرى) وأجمل من قصر مُشيّد ومن نصب تذكارى فى معبد) وفى بردية أخرى كتب (إنّ الكتابة أعز من قبر فى الغرب وألذ من إمتاع النفس) (طلعت رضوان، 2013). توازى مع اهتمام المصريين القدماء بالتعليم حقيقة لصيقة بها وهى أنّ جدودنا ابتكروا إلها للكتابة وإلهًا للعلم والحكمة والمعرفة ويذكر عالم المصريات الألمانى أدولف إرمان (كان للإله جحوتى زميلة تُقاسمه وظيفته ككاتب هى الإلهة سشات الكاتبة وسيدة دور الكتب أى المكتبات) وفى متحف برلين هناك تمثال للمهندس والطبيب والمعمارى والحكيم العبقرى (إيمحوتب) من الأسرة الثالثة فى عصر الملك زوسر الذى كان أول من شيّد هرمًا من الحجر المنحوت، فى هذا التمثال جلس إيمحوتب وهو يقرأ فى كتاب (متحف برلين برقم 7505). ومما ساعد على نشر التعليم حرص الملوك على تدوين كل صغيرة وكبيرة، بدءًا من تدوين أسماء المواليد وإحصاء عدد السكان وتسجيل المعارك. ثم تصاعد الاهتمام بالكتابة عندما ازدهر الطب فكان لابد من تدوين ملاحظات الأطباء وتفاصيل العمليات الجراحية، وفقًا للبرديات المحفوظة فى معظم متاحف أوروبا وأشهرها بردية (إيبرس) وبردية (إدوين سميث الجراحية). كان التعليم متاحًا لجميع أبناء الشعب ومجانيًا. ومدة التعليم فى المرحلة الأولى خمس سنوات. والمرحلة المتوسطة (خمس سنوات) والمرحلة النهائية (خمس سنوات) والأخيرة شبّهها بعض العلماء بمرحلة التعليم الجامعى، وهى تلك التى تعلم فيها العلماء والفلاسفة اليونانيون الذين عاشوا فى مصر لعدة سنوات للتعليم. منهم أفلاطون (13سنة) وفيثاغورث (23سنة) ومما يؤكد المعنى أنه تم العثور على بعض البرديات تتضمن موضوعات للدراسة مثل الطب والفلك والحساب والقصص. أما فى المرحلة الاخيرة من التعليم فكان الاهتمام الأكبر بتدريس حِكم الحكماء مثل نصائح الحكيم (آني) وغيره من الحكماء. وتوجد بمتحف برلين أدوات كتابة خاصة بتلميذ من عصر الأسرة 22 من بينها لوحة كتابة عليها مقدمة بردية (آنى) كتب التلميذ عليها (فاتحة تعاليم النصائح التى ألفها الكاتب (آنى) بعدها يأتى نص البردية التى كتبها آنى لابنه ثم تقرر تعميمها لتكون مادة مقررة على جميع المدارس. منها ما قاله آنى لابنه (لا تكن سليطًا ولا متطفلا وعندما تكون فى بيت أحد وترى أو تسمع شيئا فالزم الصمت ولا تبح به لأحد. ولاتكن ثرثارا وكنْ حريصًا فى كلامك لأنّ هلاك الإنسان فى لسانه (انتقل هذا المعنى إلى مثل مصرى شهير « لسانك حصانك إنْ صنته صانك إلخ «) لا تتكل على مال غيرك. إذا ما ترعرعتَ واتخذت لك زوجة، فتذكر أمك فهى قد حملتك طويلا وبعد ولادتك كان ثديها طوال ثلاث سنوات فى فمك. ولم تشمئز من قذارتك. وبعد دخولك المدرسة بقيتْ ترعاك. لا تأكل فى حين يقف آخر بالقرب منك دون أنْ تمد يدك إليه بالخبز. لا تكن شرهًا فى ملء بطنك. لا تجعل من نفسك رئيسًا على زوجتك فى المنزل. تعرف عليها وساعدها) ثم يأتى رد الابن لأبيه (ليتنى كنتُ مثلك حتى أسير على هدى نصائحك. إنك عالى الهمة. وكلماتك تريح قلبى وتُفرحه ويستوعبها عقلى) ومن أهم نصائحه لابنه (لا تجلس حين يقف من هو أكبر منك سنًا حتى لو كنتَ أرفع منه مقاما) و(إنْ كنتَ قد تعلمتَ شيئًا فأين أنتَ من بحور المعرفة). وهناك فى المتحف البريطانى بردية بعنوان (تعاليم إمنوبى لابنه حور ماخو) كانت موضع اهتمام العلماء عندما تم العثور عليها عام 1922لأنهم اكتشفوا بها نظام (حصة المُطالعة) والتمرين فى المدارس. وتدور حول عمل الخير. وقواعد السلوك المستقيم وأدب الحديث وحسن المعاملة والحض على الفضيلة وتمجيد التواضع والنهى عن الاندفاع وحدة الغضب. وترسم دستورًا عمليًا للحياة، فشرحتْ واجب الموظف وحثه على العدل وأنْ يكون أمينًا فى عمله مخلصًا له متسامحًا، بعيدًا عن الغش والتدليس. ومن المواد المقررة أيضًا تعاليم (خيتى دواوف) لابنه بيبى وانتشرتْ فى مدارس الأسرة 19 (1300ق.م) وكانت مكتوبة على الاستراكا ووُجدتْ كاملة فى برديتىْ (ساليه) و(أنسطاسى) المحفوظتين بالمتحف البريطانى وفيها قال لابنه (لا شىء يعلو على الكتب. الإنسان الذى يسير وراء غيره لا يُصيب نجاحًا. ليتنى أجعلك تحب الكتب. لا توجد مهنة من غير رئيس لها إلا مهنة الكاتب. هو رئيس نفسه. إنّ يومًا تقضيه فى المدرسة يعود عليك بالنفع. لا تجعل الكلمات النابية تخرج من فمك. إقنع بطعامك وإنْ لم يكف لاشباع بطنك. فقاوم ذلك الشعور. وما أنصحك به ضعه أمامك وأمام أولادك) ويذكر الاثرى الكبير سليم حسن أنّ المدرسة كانت تعنى (بيت الحياة) يتعلم فيها التلاميذ الكتابة والأدب القديم. ويستعملون لكتابة تمارينهم قطعًا من الخزف وشظيات الحجر الجيرى بدلا من البردى. كان التعليم فى مصر مهنيًا إلى حد كبير يتم تقديمه فى إطار تجارة الأسرة أو الحرف اليدوية. فكان هناك مجتمع الحرفيين فى دير المدينة. وتم تعليم الأولاد المهارات من قبل والدهم على أمل أن يفوز الابن بمكان فى السلك الرسمى لبناة القبور. كما تم تخصيص تعليم أكاديمى أكثر رسمية لأولئك الذين يتدربون على أن يكونوا كتبة، ويبدأون حوالى خمس سنوات من العمر وكان التعليم يتألف من تلاوة متكررة للدروس ونسخ النصوص القياسية. وعلى الجانب الآخر فى الشرق، حينما ظهرت الكتابة لاول مرة فى تاريخ البشرية فى بلاد الرافدين فى ارض سومر فى الالف الثالث قبل الميلاد –وعرفت البشرية المدارس لاول مرة فى بلاد سومر فى تلك الحقبة نفسها، وقبل قرابة خمسة الآف عام اقام البابليون اول جامعة عرفها التاريخ وهى جامعة بيت مومى اقاموها فى موقع تل حرمل الذى يبعد كيلو مترات قليلة عن بغداد. حيث عملت ردحاً من الزمن. وتخرج فيها علماء مشهورون من المصريين واليونانيين وغيرهم. وفى تلك الجامعة وضع القدماء أسس الجبر الحديث واكتشفوا أهم نظريات الهندسة المستوية وسموا فى سائر علوم المعروفة آنذاك فبلغوا منها شأناً لم يبلغه أحد من قبلهم». فى بقعة أخرى من العالم لربما كانت من أولى محاولات التعليم العالى وهى الهند القديمة التى عرفت نظام الجامعات كان للطالب فى نحو السادسة عشرة أن ينتقل إلى إحدى الجامعات الكبرى التى كانت مفخرة الهند القديمة والوسيطة مثل بنارس وتاكسيلا و فداربها و أوجانتا و يوجين. وكانت جامعة بنارس حصنا حصينا للتعاليم البرهمية الأصلية فى أيام بوذا الذى تنسب إليه البوذية. وكانت ثورة ضد البراهمة. كما لا تزال كذلك إلى يومنا هذا. وكانت جامعة تاكسيلا فى عهد غزوة الإسكندر معروفة فى آسيا كلها على أنها مقر الزعامة فى البحث العلمى فى الهند. وأشهر ما اشتهرت به مدرسة الطب فيها. واحتلت جامعة يوجين مكانة عالية فى أسماع الناس بما فيها من علماء الفلك. كما اشتهرت جامعة أوجانتا بتعليم الفنون، وإن واجهة أحد المبانى المخربة فى أوجانتا لتدل بعض الدلالة على فخامة هذه الجامعات القديمة ( ديورانت: ج 3 ص 372 ) وكان منهج الدراسة بهذه الجامعات يشبه إلى حد كبير ما يدرس فى جامعات البوذيين التى كانت من أشهرها جامعة نالاندا، غير أن جامعات البوذيين ولم تكن موجودة فى جامعات البراهمة، وكان يدرس بهذه الجامعات الدين والأدب وعلم الألفاظ والمنطق والفلسفة والرياضيات والفلك والطب. وهناك الاشرام فى الهند والتى يعود اليها وجود مدارس الغابات للبالغين هذه الى عام 1000 قبل الميلاد. والاشرام هى واحدة من أولى محاولات التعليم العالى، عندما كتب النص الادبى القديم ريك-فيدا حيث استوطن الاريون الاوائل. واستمد الشاعر الهندى طاغور وحيه من هذا التقليد الهندوسى فى التعليم العالى عندما انشا جامعة سانتنكيتان فى البنغال.. ويمكن ان نجد تقليدا آخر فى المدة نفسها عندما طورت شعوب آسيا حضارتها القديمة. وقد ذكر كونفوشيوس فى مؤلفه «كتاب فى التاريخ» حكم الامبراطور شون (2255-2205) قبل الميلاد. واشار الى ان هذا الامبراطور شرع بتعيين موظفى الدولة عن طريق الامتحانات السنوية. التى ادت بدورها الى تطوير نوع من تعليم الكبار فى الآداب لاسيما فى الادب الشعرى للشعب الصينى. وكانت الامتحانات ومنح الشهادات جزءاً مهما من حياة الجامعات وهناك عدد من الجامعات فى العالم الحديث التى لا تعدو كونها هيئات امتحانية لا غير. أما عن اقرب اتجاه للجامعة الحديثة فى العالم القديم فهو الموجود فى اكاديمية افلاطون التى أسست فى ضواحى اثينا فى القرن الخامس قبل الميلاد حيث انشأ معهداً علميا عرف باسم الاكاديمية وفيها القى أفلاطون دروسه وألف كتبه واستمر التعليم فيها أربعين سنة وقد واصلت هذه الاكاديمية عملها حتى امر الامبراطور جوستنيان بغلقها نهائيا عام 529 ميلادية اى انها عمرت نحو الف عام. فى العراق ايضا وقبل اكثر من الف عام اقام العباسيون المدارس والجامعات فأسس الخليفة هارون الرشيد فى بغداد بيت الحكمة وجعل فيه المشرفين النساخ والمترجمين وضم العديد من نفائس الكتب من مختلف العلوم والمعارف وبمختلف اللغات. وتوسع بيت الحكمة وازداد شأنه ايام المأمون(198-218ه) الذى ارسل فى طلب الكتب من مختلف البلدان. واجتمع فى هذا البيت عدد كبير من المترجمين من اللغات اليونانية والسريانية والهندية والفارسية وغيرها.. ثم أسست فى بغداد عام 459 هجرية المدرسة النظامية وفتحت أبوابها للتدريس وكان لها آدابها وتقاليدها فى العلم والعالم..وكان ظهور المدرسة المستنصرية عام 631هجرية 1239 ميلادية التى يمكن عدها اول جامعة عربية اسلامية عنيت بتدريس علوم القران واللغة العربية والرياضيات والطب.. وفى المغرب العربى ظهرت جامعة القرويين فى تونس عام 859 ميلادية اما فى مصر فظهرت جامعة الازهر عام 972 ميلادية وبذلك تعد الاكاديميات العربية اسلاف الجامعات الاوروبية المباشرة وهى الاكاديميات التى انتشرت عبر العالم العربى فى عصر الخلفاء الذهبى فانتقلت شرارة المعرفة والعلوم والفلسفة التى بذرها الفكر الرومانى الهيلينى الى العرب الفاتحين ونشروها على مدى امبراطوريتهم الواسعة واضافوا اليها تقاليدهم الخاصة فى المعرفة والرياضيات والعلوم والطب والقانون والفلسفة والادب وكانت النتيجة نشوء مراكز عظيمة للتعليم العالى فى بغداد ودمشق والقدس والقاهرة والاسكندرية وكانت هذه المؤسسات تتمركز حول الجوامع مثل الازهر والقيروان والزيتونة والنجف. وظهرت فى القرن الحادى عشر وحدة فكرية عظيمة فى عالم العلم، فسافر الشبان من اسبانيا الى مكة ومن اوروبا الى بغداد ومن الصينوالهند وايران واذربيجان الى النجف. وتركوا بيوتهم ليجلسوا تحت اقدام اساتذة اختاروا ان يتعلموا على ايديهم ويمكن أن نرى أثر الطب العربى فى كلية الطب فى ساليرنو فى ايطاليا وفى كلية الطب فى مونبلييه فى فرنسا وهى اقدم كليات الطب فيها.