عندما هبطت إلى أرض لندن لأول مرة لم أجد كل شيء كما توقعته أو تخيلته. صحيح أن سائق الباص الذى نقلنا من المطار إلى نهاية الخط بالقرب من محطة فكتوريا كان بدينا أحمر القفا غليظه، وأن ذلك كان يتفق فيما بدا لى مع ما ينبغى أن يكون الحال عليه فى العاصمة البريطانية. وفيما عدا ذلك لم يكن هناك فيما لاحظت أى شيء لا يثير دهشتي. كانت المدينة مشمسة دافئة (كنا فى سبتمبر). أين إذن مدينة الضباب والمطر التى حدثونا عنها؟ وكانت خضراء مزهرة. وعندما وصلت إلى نهاية خط الباص وجدت فى انتظارى شخصين هما: الصديق فؤاد الذى سبقنى إلى لندن بأسبوع لدراسة الدكتوراه فى التربية، ومحمود الطالب المخضرم الذى كان يعد رسالة دكتوراه فى الفلسفة. وحمل كل من صاحبى إحدى حقائبي. وكان الفيلسوف بالذات يرزح تحت أثقل الحقيبتين، بينما ذهب فؤاد ليشترى تذاكر السفر بقطار الأنفاق. أما أنا فقد أخذت أقلب بصرى هنا وهناك، وأرقب السلالم المتحركة والقطارات ومن تحملهم من البشر. وقلت لفؤاد: «ما بال البنات هنا على درجة متواضعة من الجمال؟ وابتسم محمودابتسامة غامضة وشد نفسا من غليونه وسألنى وهو مسبل الأجفان ألا أتعجل وأن أتمسك بالصبر». لا أذكر الآن كيف كنت أتخيل الإنجليزيات قبل أن آتى إلى لندن. لكن من المؤكد أننى أصبت بشيء من خيبة الأمل عندما رأيتهن رأى العين. لم يكنّ على درجة عالية من الجمال أو الأناقة. ومع ذلك، فقد كنت مليئا بالتوقعات والآمال. كنا فى أوائل المساء. وبدا لى أن ثمة مجالا للخروج والسهر بعد إيداع الحقائب فى مكان ما، أى مكان. وكان الفيلسوف قد استقر على خطة أخرى لم تتكشف لى إلا بالتدريج. فقد استطاع أولا أن يتخلص من فؤاد على أن نلتقى ثلاثتنا فى الغداة. ولما دعانى إلى تناول العشاء فى بيته، قبلت الدعوة على الفور. فربما بدأت السهرة بعد العشاء، فنخرج إلى المدينة ونفرغ لها بعد سد الحاجة إلى الطعام. ولم تبدأ الشكوك تساورنى إلا عندما تبين لى طول الرحلة إلى مسكن صاحبنا فى حى بالام جنوبى لندن. وعندما هبطنا إلى أرض الحي، تبين لى أن بالام ليست إلا ضاحية من ضواحى المدينة، ولا يمكن أن يكون فيها سهر أو ما يشبه السهر، وشعرت أننى وقعت فى مصيدة لا خروج لى منها إلا فى الصباح. وما إن فتح صاحبى باب البيت حتى واجهنا كلبان بالنباح. وكانا ضخمين كثيفى الشعر كأنهما خروفان. وخرجت لنا عجوز لتنهر الكلبين ولتعتذر لنا عن الضوضاء. وقال الفيلسوف همسا عندما وصلنا إلى مطبخه: هى صاحبة البيت. وهى عانس وتعيش مع أختها. ولقد طلبت إليها أن تعيرنى إحدى الغرف لتبيت فيها الليلة فوافقت. الحمد لله. الإنجليز أناس مهذبون ويراعون الأصول دائما. وبعد العشاء أحكم عليّ باب المصيدة. ذهب الفيلسوف إلى غرفته بعد أن قال: تصبح على خير. وكانت الغرفة المخصصة لى فى أعلى البيت، ولا سبيل إلى الخروج منها لمغادرته, حتى لو تجرأت وحاولت. كيف أتجاوز كلبى الحراسة والأختين العانسين؟ وكيف أعرف أين أتجه وأى طريق أسلك فى بالام؟ وكيف أصل إلى لندن؟ وكيف أتصرف فيها أنا الغريب؟ وأين أقضى بقية الليل؟ لا بد أن أصبر إذن. وحاولت استدعاء النوم فما أسعفنى رغم شعورى بالإرهاق بعد الرحلة الطويلة. أنا بين أربعة جدران وفوقى سقف مائل كأنه ضلع لمثلث. أنا فى سجن يحول بينى وبين المدينة التى طالما حلمت بها. يا لها من ورطة! ثم نظرت فرأيت فجأة أن سجنى ليس منيعا كما تخيلت. فقد لاحظت وأنا مستلق على السرير أن للسقف المائل نافذة مغلقة. هناك إذن منفذ، وللمنفذ باب مغلق ولكن كل ما هو مغلق يمكن فتحه. ونهضت واقفا على السرير ورفعت نفسى على أطراف أصابعي، ولم أجد صعوبة كبيرة فى معالجة القفل وفتح المنفذ إلى سماء الليل. ومن المؤسف أن الليل كان بلا نجوم. ولكن يبدو أننى استطعت إقناع نفسى بأنه يكفينى ليلة وصولى أن أرى قطعة من سماء المدينة.فلما عدت إلى وضع الاستلقاء رأيت النوم يزحف ويأخذ بتلابيبي. وحاولت أن أقاوم، ولكن النوم غلبني. فكأنما كان ينتظر أن أستلقي، حتى غاص بى إلى أعماق مظلمة بلا قرار. ولم أكن أعلم حينذاك أن ما حدث لى فى تلك الليلة كان بداية لفترة طويلة من الشعور بالإعياء. فكنت لا أستيقظ لأشترى ما آكله حتى أعود إلى النوم. كنت كالطفل الرضيع. وانقضى شوقى إلى لندن كأنها لم تعد موجودة. وحقيقة الأمر أننى كنت أشعر أننى بلغت فى لندن مرفأ الأمان بعد خروجى من مصر. كنت قبل أن أرحل عن القاهرة أسكن فى شبرا. وكان لى صديقان، أحدهما يسكن غير بعيد عن مسكني، وهو غالى شكري. كثيرا ما كنت أراه فى الشارع فنتوقف لنتحادث، ولعله كان يأتى لزيارتي. إلا أنه اختفى من الحى فجأة. ولم أعد أراه. وكان لى صديق آخر يقيم فى جزء آخر من شبرا، وكان يدعى عبدالملك يواقيم. تعرفت عليه فى مقر كلية الآداب التابعة لجامعة عين شمس فى شبرا. وقد بهرتنى شخصيته. فقد كان يدرس الفلسفة، وكان يعمل فى نفس الوقت فى أحد متاجر عمر افندي. ولكنه كما بدا لى حينذاك صاحب ثقافة فرنسية متينة. وعبد الملك يواقيم هو الذى اشتهر فيما بعد باسم عبدالملك خليل مراسل الأهرام فى موسكو. وهكذا كان أصدقائى يختفون الواحد بعد الآخر. وكنت عندما بلغت لندن أحلم بدراسة الفلسفة دراسة جادة، وبالحب. ولكننى ما إن وجدت مكانا أستقر فيه حتى نسيت كل ما أتيت من أجله، واستسلمت لنوم طويل عميق. ثم مرت الأيام والسنون. وأتيح لى أن ألتقى بغالى شكرى فى باريس وبعبد الملك يواقيم خليل فى موسكو. فيا لحسن حظي! لمزيد من مقالات ◀ عبد الرشيد محمودى