قريبًا من ذكريات حميمات يذوب طعمها فى الروح كلما زادت أيامُ العمر واشتعل الرأس شيبًا، وبعيدًا عن أى ضجيجٍ لمَدِينة، فى واقعنا الذى خبزَ التطور مُدُنَهُ، بأيادٍ قاسيات العَجّنِ والوَجَعْ، كان صباح كلُ عيدٍ، يحملنى رُفقة والدى الشيخ الجليل إلى القرية، لمْ تَكنِ الرحلة للوالد مجرد عَمَلٍ يؤديه لقاء ما تحملهُ له خزينة الأوقاف من جنيهات نظير الخُطبة، كما لم تكن بالنسبة لى مُجرَّدَ فُسحةٍ تبدأ بركوب (الأوتومبيل) العتيق من الموقف القديم بقلب مدينة (دمنهور)، وإن كان مجرد هذا الفعلِ فى حد ذاته يُمثِلُ حدَثًا يُروى فى أحاديث الفخر بين أقرانى من الأحداث (ركبنا أوتومبيل كان لونه بيبرق وواسع من جوه وسريع جدًا وقعدت جنب الشباك أو جنب السواق الذى عرفنى على كل شيء فى العربية). مُنذ تفتح وعيى على الحياة، ولأيام الجُمَع والأعياد قداستها فى طقوس الوالد الشيخ أمد الله فى عمره، تجاوزت علاقته بالمنابر العقود الستة، غير أن طوارئ يوم الجمعة والأعياد لا تُضاهيها طوارئ، وطالما سألتُ نفسى (كيف لمن يعتلى المنبرَ كل أسبوعٍ أن يحمِلَ ذات التوتر الدورى معه؟، كيف لا تكسر رتابة الأداء توتر الإعداد؟)، ولم تقدنى الإجابات يومًا إلا إلى خانة المسئولية، إنها التى كانت تحملنا للمشى من (الموقف القديم) حيث لا عربات تتحرك بعد صلاة الفجر، وهو ما يعنى البحث عن عربة عند مدخل دمنهور من ناحية كوبرى (أبو الريش)، فى الطريق يُراجع الشيخ خطبته التى سطر عناصرها فى ورقة يحملها إلى جوار منديله القماش، فيما أُتابع الأشجار التى تتحرك فى طبقات ظلام ليل يرحل، ترسم لوحاتها فى فضاء الطريق، أُفَتِش بينها عن المئذنة الصفراء العتيقة لمسجد (السلانكلي) التى تُخبرنى بأننا على وشك الوصول، وعادةً ما تُسيرنا حسابات الشيخ لنصل المسجد مع ميقات صلاة العيد، هكذا علمنى (فى العيد يصل الإمام مع موعد الصلاة)، كُنَّا إذا ما يسرت المواصلات وصولنا قبل الموعد بقليل نتلكأ فى مسيرنا عبر المسافة الصغيرة بين المحطة والمسجد، وكان رجال القرية كلهم يقفون بجلابيبهم وطواقيهم على أبوابه فى انتظار الدخول خلف الشيخ، بينما أطفالها يستثمرون وقت الانتظار فى اللعب حول المسجد، كما كان يجلس حلاقو القرية يمارسون مهامهم لمن فاتته الحلاقة يوم وقفة العيد، وبمجرد دخول المسجد تختلط نسماتُ هواء العيد الطازجة مع أنواعٍ متعددة من (الكولونيا)، ويصطف الجميع خلف الشيخ فيما أُختصُ بالوقوف مع الكبار فى الصف الأول كونى ابن الشيخ، ومع تكبيرات الصلاة تعلو أصوات الحضور مرددة بنشاط وفرحة تنتهى صلاة العيد فى القرية الصغيرة الملاصقة لقريتنا (شرنوب)، لتبدأ طقوس عيد خاصة، فبمجرد انتهاء الخطبة يخرج كل من فى المسجد ويصطفون فى طابور طويل، بينما يكون على الشيخ أن يخرج وخلفه كبار رجالات القرية ليُصافحوا أهلها مهنئين بالعيد، وبالطبع لكونى ابن الشيخ يُسمح لى بالسير معه ومصافحة الخلق، وعادة ما كانت المصافحة مقرونة بالتقبيل، كان للأيادى قلوب تحركها، وكان للمصافحة طرح ودٍ فى الكفوف. وتنتهى طقوس القرية فى عقب صلاة العيد، ورغم كلِ محاولات الأهالى دعوة الشيخ إلى الإفطار، إلا إنه كان يعتذر ليتمكن من استكمال طقوس صباح العيد فى قريتنا (شرنوب)، إذ نتوجه مباشرة إلى مقابرها، حيثُ عيدٌ آخر رغم كونهِ على المقابر، سريعًا يُصافح الوالد الشيخ من ودَع عزيزًا خلال العام المُنصرم. مع عصر أول ايام العيد، كانت مُهمتنا فى قريتنا تنتهى لنبدأ التحرك صوب المحطة ليحملنا (أوتومبيل) إلى البيت، عادة ما كنت أركب سيارة العودة، حاملًا عددًا من أوراق مالية جديدة فئة خمسة وعشرة قروش، أتحسسها لأتأكد من كونها لم تسقط أثناء المرجحة على أرجوحة صنعت من حبل بين شجرتين، أو عندما رميت نفسى عن الحمار الذى أخافنى اندفاعه فى الركض، أو حين كنت مع أبناء عمومتى نلعب فى تلال التبن، أتحسس عيدياتى الجديدة، وبعض خدوشٍ تركها اللعب فى القرية على ركبتي، أقلق من رد فعل أمى بسببها، لكنى أعوِّل على كونه العيد وبالتأكيد لن يكون غضبها عليَّ شديدا، وهكذا أعود إلى مدينتنا الصغيرة تاركًا عيد قريتنا الذى انقضى على ساعاته القليلة، ناحتًا على جدران الروح ملامحَ إنسانٍ كان قادرًا على صناعة عيده وفرحته بين مسجد وقبر وجرنٍ ومندرة، وهكذا صار العبد لله كل عيد يُغمض عينيه لتحمله الذكرى إلى درب عيد باتَ بعيدًا رغم أن إنسانه واحد، ليبقى بعدها سؤال ما الذى تغير فى عيدنا هل العيد أم الإنسان أم الأوطان؟ إنه السؤال الذى ينبغى أن نفتش عن إجابته علها تصل بنا إلى طعمِ عيد تحن إليه أرواحنا ... فاللهم عيد. لمزيد من مقالات ◀ عبد الجليل الشرنوبي