علي الرغم من امتناعي عن الكتابة في أية مواضيع اقتصادية أو غيرها من بعد قيام الثورة حيث كنا وما زلنا- نمر بمرحلة ترتيب الأوراق, وما يرتبط بذلك من عدم وضوح الرؤية, وعدم ايجاد الوقت لمتخذي القرار لسماع الرأي الآخر ودراسته, إلا انني قررت أن أخرج عن هذه القاعدة بعد أن أصبح لدينا رئيس منتخب وانتقلنا بناء علي ذلك الي مرحلة الحكومة المستمرة المسئولة أمام الشعب. تتطلب هذه المرحلة, في تصوري, أن يكون من واجب كل من له رأي في شأن عام أن يعلنه ويترك لمتخذي القرار مسئولية دراسته لقبوله أو رفضه.. ورأيت أن تكون البداية عندي هي موضوع رفع الدعم عن البنزين المثار حاليا, لأهميته بالنسبة لميزانية الدولة من ناحية وتأثيره علي تكاليف معيشة منخفضي الدخل من ناحية أخري. فمستحقو الدعم في مصر يبلغون حوالي70% من الشعب المصري. ومالكو السيارات الخاصة, مهما كان صغر حجم هذه السيارة, لا ينتمون لهذه الفئة. بالتالي رفع الدعم علي البنزين يكون في هذه الحالة ضرورة تستدعيها العدالة الاجتماعية. بالإضافة إلي ما يؤدي اليه ذلك من تخفيف العبء علي ميزانية الدولة وتوفير هذا الدعم لتوجيهه الي سلع وخدمات أخري يحتاجها منخفضو الدخل, مثل خدمات التعليم, والصحة. لكن من ناحية أخري نجد أن رفع الدعم علي البنزين, خاصة نوعي البنزين80 و90, سيؤدي إلي زيادة تكلفة نقل الركاب في الميكروباص والأوتوبيسات مما يعني رفع تكلفة المعيشة لمحدودي الدخل الذين لا يملكون عربات خاصة ويستخدمون خدمات المواصلات العامة في الانتقال. كما أن رفع الدعم علي البنزين سيؤدي أيضا إلي رفع أسعار نقل البضائع بما فيها سلع الطعام مما يؤدي الي رفع أسعارها في الأسواق وهو ما سيزيد من تكلفة معيشة الأفراد مشتري هذه السلع, لاسيما منخفضو الدخل الذين ينفقون جزءا كبيرا من دخولهم علي الطعام. والسؤال هو: كيف نحقق العدالة الاجتماعية بحيث نلغي الدعم علي البنزين دون أن نرفع من تكلفة المعيشة لمنخفضي الدخل بزيادة أسعار انتقالهم وأسعار سلع الطعام لهم؟ هناك اقتراحان في هذا الشأن بناء علي ما نشر في الاعلام المصري وهما, في تصوري, لن يحققا الهدف من رفع دعم البنزين وهو تخفيف العبء علي ميزانية الدولة مع عدم المساس بتكلفة المعيشة لمنخفضي الدخل. الاقتراح الأول هو استخدام كوبونات توزع علي مالكي السيارات بحيث يكون شراء أي كمية بنزين أكثر مما تحدده هذه الكوبونات بدون دعم. واختلاف أنواع هذه السيارات, واختلاف أنواع البنزين المستخدم يجعل استخراج هذه الكوبونات وتوزيعها مسألة صعبة وذات تكاليف ادارية مرتفعة. بالاضافة الي عدم تحقيق العدالة الاجتماعية لحصول أصحاب السيارات الملاكي, وهم خارج فئة منخفضي الدخل, علي دعم لا يستحقونه. وسيترتب علي ذلك خلق سوق سوداء في تداول هذه الكوبونات, بالاضافة الي التلاعب المتوقع أن تقوم به محطات البنزين لقيامها بتوزيع جزء من البنزين بدعم( عن طريق الكوبونات) وجزء آخر بدون دعم. والاقتراح الثاني المطروح هو الاحتفاظ بدعم البنزين علي النوع80, وربما90 أيضا علي أساس أن السيارات الصغيرة وسيارات النقل هي التي تستخدم هذه الأنواع أساسا, والغاء الدعم علي أنواع البنزين92 و95. من المتوقع أن يؤدي ذلك الي استبدال البعض للأنواع المدعمة,80 و90, بدلا من الأنواع غير المدعمة,92 و95, مما سيؤدي الي زيادة الطلب علي الأنواع الأولي المدعمة. والنتيجة اما زيادة الكميات المطروحة من البنزين المدعم وبالتالي زيادة حجم الدعم عما كان عليه لهذين النوعين, أو إحداث أزمات في هذه الأنواع نتيجة لزيادة الطلب عليها عن المعروض منها في الأسواق. وبالتالي لا يعتبر هذا أيضا حلا ملائما للتطبيق. ولالغاء الدعم علي البنزين دون المساس بتكلفة معيشة منخفضي الدخل أقترح الآتي. أولا: إعطاء مهلة ستة أشهر( أو عام) لأصحاب عربات نقل الركاب والبضائع لتحويلها من البنزين إلي الغاز مع إعطائهم قرضا بفائدة منخفضة ومدة سداد طويلة للقيام بهذا التحويل. ثانيا: بعد هذه المهلة يلغي الدعم علي كل أنواع البنزين مرة واحدة, وليس علي مراحل, وذلك حتي لا يحدث الخلل المتوقع في العرض والطلب علي أنواع بنزين معينة. ثالثا: يحدد ثمن أنواع البنزين80 و90 علي أساس التكلفة الحقيقية له دون دعم بينمايحدد سعر بيع البنزين92 و95 بأعلي من التكلفة الحقيقية, وذلك لأن من يستخدم أيا من هذين النوعين من البنزين هما أصحاب السيارات مرتفعة الثمن, وبالتالي يكونون قادرين ماديا علي دفع هذه الزيادة. رابعا: رفع أسعار استخراج رخص العربات الفارهة كالمرسيدس والB.M.W وغيرها عما هو سائد حاليا. خامسا: استخدام الزيادة في أسعار نوعي بنزين92 و95 عن التكلفة, والزيادة في أسعار استخراج رخص السيارات الفارهة في دفع جزء من الدعم التي تتحمله الحكومة للغاز لتعويض الزيادة في الدعم الخاص به نتيجة لزيادة الطلب عليه بعد تحول أصحاب سيارات نقل الركاب والبضائع إلي استخدامه. وكمثال يمكن أن تكون الزيادة في حدود5:10% بالنسبة لبنزين92, و10-15% لبنزين.95 فالغاء دعم البنزين لن يؤدي في هذه الحالة الي الاضرار بمنخفضي الدخل, كما أنه سيخفض من عبء الدعم في ميزانية الدولة من ناحيتين: فهو سيخفض من حصة الدعم في الميزانية, وسيطبق لأول مرة في مصر مفهوم الدعم التبادلي, وذلك بقيام مرتفعي الدخل في المجتمع, وهم مستخدمو بنزين92 و95, بمشاركة الحكومة في تمويل الزيادة في دعم الغاز الناتج من تحويل عربات نقل الركاب والبضائع الي استخدامه, وذلك برفع أسعار هذين النوعين من البنزين عن تكلفتهما الحقيقية. ومع الزيادة المطردة لفجوة الدخول في مصر, تقتضي العدالة الاجتماعية والعجز الكبير في ميزانية الدولة تطبيق مفهوم الدعم التبادلي في مجالات عديدة أخري, ومنها التعليم والصحة علي سبيل المثال.