وأنا أقلب أوراق ومذكرات وكتابات عمنا وأستاذنا فى الزمن الصحفى الجميل والذى اسمه: عبد المنعم شميس والذى قدمه لى يوما أستاذ النقد الرياضى فى بر مصر كله الذى اسمه نجيب المستكاوى.. وأنا مازلت محررا صغيرا ولكن شقيا ومشاغبا وباحثا عن المتاعب الصحفية بالطبع من أول يوم صعودى درجات سلم صاحبة الجلالة الصحافة.. أيام كان الأهرام مستقرا فى مبناه التاريخى فى باب اللوق.. والذى يجمع داخل أركانه كوكبة من عمالقة الصحفيين تحت إمرة الجورنالجى الكبير الذى لا يتكرر والذى اسمه محمد حسنين هيكل.. أقول وأنا أقلب صفحات كتاب عمنا عبد المنعم شميس الذى يكشف فيه الستار عن عظماء من مصر.. عظماء آخرون ليس الذين نعرفهم ويعرفهم معنا بالاسم والفعل.. التاريخ المصرى الحديث الذى قام على أكتافهم وبفكرهم وبقلمهم وبفنهم وبعلمهم ومكانهم العظيم.. أمثال عمنا رفاعة رافع الطهطاوى الذى غزا باريس وشربها وهضمها وحمل علمها وفنها وأدبها وجمالها وحسنها الفتان إلى مصر والمصريين.. وأمثال طه حسين وما أدراك ما طه حسين شمس مصر الساطعة وأيقونة العقل المصرى المستنير التى أضاءت أركان مصر نورا وعلما وأدبا.. ودينا وخلقا عظيما.. وصلاحا وفلاحا حتى آخر الزمان.. أقول وأنا أتجول بين نوابغ العبقرية المصرية التى صعدت من قاع النيل إلى السطح لتعيد رسم خريطة التنوير المصرية المستنيرة ما قبل بزوغ شمس القرن العشرين. تذكرت كاتبا رائعا من الذين صنعوا الفارق بين العقل والأقدام.. وتحت شمس الحضارة المصرية التى أضاءت الدنيا نورا وتنويرا عبر قرون بلا عدد.. إلى حضارة تضيء وتعلو وتتوهج.. ذهبنا إليها راكبين البحر.. لنعرف وندرس ونتعلم فى معاهدها وجامعاتها ونربى أجيالا من الأساتذة والمعلمين والعلماء الأفذاذ حيث كنوز الحضارة الغربية وقد فتحت أبوابها لهم لينهلوا منها حتى الارتواء والشبع.. أقول تذكرت قول عمنا وتاج راسنا الكاتب والمترجم والمؤلف السورى الأصل المصرى الانتماء والثقافة.. الذى اسمه حبيب جاماتى صاحب سلسلة المقالات الشهيرة تحت عنوان: «تاريخ ما أهمله التاريخ» والتى قرأتها شابا فتيا وأنا فى المرحلة الثانوية فى القناطر الخيرية على صفحات مجلة المصور أيام مجدها الصحفى تحت رئاسة العم فكرى أباظة ومعها سلسلة روايات الهلال فى تاريخ الاسلام والممالك الإسلامية والتى شببت عليها فتى حالما صغيرا.. والتى كتبها العم جورجى زيدان بقلمه.. وهى للحق أعظم ما كتب فى تاريخ الإسلام فى صورة روائية تنبض بالحياة.. تخدم الإسلام والمسلمين.. ربما وهذه شهادة منى أكثر مما كتبه مصلحون وباحثون ومشايخ كثيرون.. وللحق لقد تحول كل من سافر وسهر وتعلم فى جامعات ومعاهد بلاد الفرنجة.. إلى شعاع مضئ. إزاي؟ أنا أسأل؟ المعلم القدير الذى اسمه عبد المنعم شميس يجيب: (1) عمنا رفاعة رافع الطهطاوى حاول وضع كلمات النشيد الوطنى المصرى لأول مرة فى التاريخ.. وهو ما لا يعرفه الكثيرون.. (2) على باشا مبارك كتب خطط القاهرة وأحضر وشائج المدينة الحديثة إلى مصر فى بناء المدارس ومحطات السكك الحديدية ومراكز البوليس والأبنية العامة.. وأصلح الخطأ فى بناء القناطر الخيرية بعد أن أوشكت على الانهيار واغراق الدنيا كلها. ياساتر! وياساتر هذه منى أنا! ◘◘◘◘ ولكن ظلت النظرية التى تقول إن حملة بونابرت على مصر هى التى فتحت أبواب العصر الحديث فى بلادنا تتردد على أسنة أقلام الدارسين سنوات طويلة، ومازالت تردد حتى اليوم، وكأنما أصبحت هذه النظرية مما يجب أن نوافق عليه بغير مناقشة.. إزاي؟ الجواب: كتب الأدب والتاريخ تقول ذلك..كما نقولها ونؤكدها.. أول مطبعة وأول جريدة وأول معمل كيميائى.. وأول صورة رسمت بالزيت.. وأول ناد ليلى اسمه (تيفولي) بحى الأزبكية.. تصوروا نادى ليلى فى قلب القاهرة فى هذا الزمان! والشيخ الجبرتى كتب صفحات عن العجائب والغرائب التى شاهدها عند الفرنسيين.. كل ذلك صحيح. ولكن هل معنى ذلك أن الفرنسيين قد غيروا وجه الحياة المصرية التى كانت قائمة تحت حكم المماليك؟ الجواب: لقد فتح المصريون عيونهم حقا على هذه العجائب والغرائب، ولكنهم لم يقرءوا كتاب (وصف مصر) الذى ألفه علماء حملة بونابرت.. تصوروا ولم يستولوا على مطبعة بونابرت ذات الحروف العربية، ولم يتعلموا العلم الحديث القادم من بلاد الفرنجة الذى أذهل عقل مولانا الشيخ الجبرتي!
◘◘◘◘ ماذا تعلم المصريون إذن؟ أنتم تسألون؟ والجواب: الشيء الوحيد الذى تعلمه المصريون من حملة بونابرت هو أن هناك حياة جديدة وعوالم جديدة لم يعرفوها من قبل، ويجب أن يعرفوها. وعندما جاء محمد على وولاه المصريون أمرهم عام 1805.. كانت تطلعات الشعب المصرى تتجه نحو أوروبا حيث الثقافة الجديدة التى شاهدها عند الفرنسيس. كان المصريون فى هذا الزمان يريدون أن يعيدوا بناء وطنهم على أسس جديدة عصرية، بل كان الاتجاه السائد فى الأزهر هو هذا الاتجاه العصرى. وليس أدل على ذلك من أن الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر أيامها اشتغل بالعلم الحديث، وتعلم بعض اللغات، وألف رسالة سماها (كيفية العمل بالاسطرلاب)، كما قبل كبار مشايخ الأزهر ومنهم الشيخ عبدالله الشرقاوى والشيخ الفيومى وغيرهم أن يصورهم الرسامون الفرنسيون فى لوحات زيتية معروفة، دون اعتراض أو فتوى بتحريم التصوير. وعندما أوفدت مصر البعثات إلى فرنسا كان من بين أعضائها: الشيخ محمد زناتى والشيخ أحمد عليوه والشيخ محمد الدشطوطى والشيخ أحمد العطار والشيخ عبدالله والشيخ محمد عيسى والشيخ حسن والشيخ نصر أبوالوفا والشيخ أحمد الرشيدى والشيخ حسن غانم والشيخ ابراهيم الحكيم وكلهم مشايخ من الأزهر الشريف. والحقيقة أنه لم ينبغ من هؤلاء الأزهريين نبوغا خارقا غير الشيخ رفاعة الطهطاوى إمام البعثة، ثم اتجه بعضهم إلى تعلم الطب ونبغ منهم الشيخ أحمد الرشيدى والشيخ نصر أبوالوفا والشيخ إبراهيم النبراوى الحكيم. أما المشايخ الآخرون فقد أهملهم التاريخ.
◘◘◘◘ وحتى نستكمل صورة هذه الرحلة الحضارية العظيمة التى قام بها أبناء الفلاحين من أجل بناء مصر الحديثة دعونا نتحدث هنيهة عن أولئك الرواد الذين صنعوا هذه المعجزة. وللحقيقة فإن أبناء هذا الجيل لايعلمون أن جيلا قريبا منهم.. لا يبعد أكثر من مائة عام قام بعمل لم نصل إليه نحن بعد، فهؤلاء الرواد استطاعوا أن ينقلوا العلوم الحديثة إلى العربية. وأن يدرسوا هذه العلوم باللغة العربية. وجامعاتنا اليوم تدرسها باللغة الانجليزية!. ولنقف معا مع هؤلاء الأساتذة الكبار، ولنبدأ بمدرسة المهندسخانة أو كلية الهندسة كما نسميها اليوم. كان كبير الأساتذة أصغرهم سنا وهو (محمد بيومي) الذى رويت لكم مأساته من قبل والذى دفع حياته ثمنا لها!. أما الدكتور أحمد حسن الرشيدى، فقد أوفد إلى فرنسا أيضا بعد أن أتم دراسته فى مدرسة الطب وبعد عودته من البعثة اشتغل بالتدريس، وألف تسعة كتب فى مختلف أنواع المعارف والمسالك الطبية. وفى عبور سريع حول هذه النهضة العلمية العظيمة.. نذكر الدكتور محمد الشافعى ناظر مدرسة الطب الذى ألف وترجم ثلاثة كتب. والدكتور محمد الشباسى وله كتابان، والدكتور عيسوى النحراوى وقد ترجم كتابا فى (التشريح العام)، والدكتور حسين غانم الرشيدى مؤلف (الدر الثمين فى فن الأقرياذين)، وهو أستاذ الصيدلة، والدكتور محمد عبدالفتاح وله أربعة كتب: ونستطيع أن نقول إن هؤلاء العلماء وضعوا أساس العلم الحديث فى مصر، خلال رحلة قصيرة ربطت بين مصر وأوروبا خلال ربع قرن من الزمان. ولا أريد أن أنسى أشياء أخرى فى هذه الحضارة التى نقلت إلى مصر. فقد كان الذين درسوا العلوم العسكرية نواة لإنشاء الجيش المصرى الجديد الذى وصل ضوءه إلى أبواب القسطنطينية وأوشك أن يسقط الخلافة العثمانية لولا أن رفض محمد على طلب إبنة ابراهيم باشا بدخول الجيش المصرى عاصمة الخلافة!. ولا أريد أن أنسى أيضا (يوسف أفندي) ناظر مدرسة الزراعة فى شبرا، والذى درس العلوم الزراعية فى فرنسا، ونقل إلى مصر فاكهة الماندارين، ثم سميت بعد ذلك باسمه هو.. ولازالت تسمى حتى اليوم باسم (يوسف أفندي). وبعد هذه الرحلة قامت فى مصر المدرسة التى ترجم المتخرجون فيها أكثر من ألفى كتاب فى مختلف العلوم والآداب والمعارف، وهى مدرسة الألسن التى أنشأها رفاعة رافع الطهطاوى. وقد قسم السيد صالح مجدى تلميذ رفاعة أبناء هذه المدرسة إلى ثلاث طبقات.. وذكر أسماء مشاهيرهم. وأبناء هذا الجيل لا يذكرون أسماء هؤلاء الرواد، ولهم عذرهم، فقد وضعت الكتب التى ترجموها فى غرف مظلمة مغلقة، ولم يهتم بها أحد، أو بفتحها إلا فى المناسبات! لقد كتب صالح مجدى عن واحد من هؤلاء الرواد وهو (محمد أفندى عثمان) فقال: »فريد العصر، وفارس ميدان النظم والشعر والنثر، البارع فى كل فن، صاحب تعريب (العيون اليواقظ) و(قبول وورد جنة) وغير ذلك من التآليفات البهية«. ◘◘◘◘ ويقول لنا عمنا عبدالمنعم شميس: لقد انقطعت رحلة الحضارة المصرية عندما تولى حكم مصر عباس الأول.. ثم سعيد باشا. ولكن الرحلة الثانية إلى أوروبا ما لبث أن بدأت وكان رفاعة الطهطاوى ينظر إلى رجالها بعينين ضاحكتين، فقد أصبح تلاميذه رجالا كبارا لم تنقطع عزيمتهم عن مواصلة العمل لبناء مصر الحديثة. وكما كانت الرحلة الأولى رحلة علم.. كانت الثانية رحلة علم أيضا، وكان عدد أفرادها 174 مسافرا لدراسة الطب والهندسة والحقوق والبحرية والزخارف ومختلف الفنون، وبلغت نفقات الرحلة 163657 جنيها مصريا بأسعار ذلك الزمن الجميل طبعا!. والأمر العجيب الذى يلفت النظر إلى الرحلة الحضارة، أنها عادت بطبيب شهير هو الدكتور محمد درى، كما عادت الرحلة الأولى بالدكتور محمد على البقلى، وتولى الدكتور الدرى نظارة مدرسة الطب وكان أشهر جراح فى مصر. وأهم أعمال الدكتور محمد الدرى هو إنشاء مطبعة لطبع الكتب الطبية على نفقته الخاصة، فقد أنشأ فى حارة السقايين (المطبعة الدرية لطبع الكتب الطبية). وأصدر عددا من المؤلفات أهمها (بلوغ المرام فى جراحة الأجسام) وكتاب (الإسعافات الصحية فى الأمراض الوبائية). ولايصح هنا أن ننسى الدكتور سالم سالم الذى درس فى ألمانيا، فقد ألف ثلاثة كتب مهمة كانت تدرس بمدرسة الطب. ◘◘◘◘ لقد بدأت مصر تصحو.. ولكن حدث الصراع الرهيب بين الخديو إسماعيل وبين الشعب.. وحدث التدخل الاستعمارى الأوروبى.. وسقط إسماعيل بين براثن المرابين.. وبدأت عيون أبناء الشمال الأوروبى تتطلع إلى الاستيلاء على درة وادى النيل. كانت شعلة الحضارة المصرية متوهجة، وبدأ أبناء الشام يتعلمون الطب فى مدرسة قصر العينى ويتخرجون فيها، وبدأوا يتجهون إلى القاهرة والاسكندرية لاقتطاف ثمرات النهضة الجديدة.. العلوم بدأت تزدهر. والآداب بدأت تثمر.. ويتربع البارودى على عرش الشعر العربى.. ويبدأ شوقى أولى خطواته نحو كرسى امارة الشعر. وبدأنا نسمع عن ميلاد مطربة مصرية صغيرة صوتها قادم من الجنة.. اسمها أم كلثوم.. ودخل يوسف وهبى وعلى الكسار ونجيب الريحانى فى الصورة. ولكن ذلك حديث آخر.
نحن نكشف الستار عن عظماء من مصر.. عظماء آخرين غير اللذين نعرفهم ويعرفهم التاريخ المصرى الحديث! ------------------------------------------------------- Email:[email protected] لمزيد من مقالات عزت السعدنى