استقر فى ذاكرة العالم ووجدانه أن الطلقة الأولى فى أى من المواجهات الدولية هى طلقة أمريكية غربية، فمنذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم كانت الطلقات الأولى فى كل الحروب الكبرى طلقة أمريكية غربية، إلا تلك فى حرب أكتوبر. ولهذا فإن كل من يتناول الأزمة الإيرانية يتناولها تحليلا من منطق أن الطلقة الأولى إذا حدثت فستكون أمريكية إسرائيلية. ثم يتتابع أغلب المحللين يفندون أن هذه الحرب مستحيلة أمريكيا بعد مأساة حرب العراق، فلقد أدت إلى كارثة إستراتيجية أمريكية بصعود إيران ذاتها. وهى مستحيلة اقتصاديا فمكاسبها محدودة، وهى كذلك معقدة سياسيا فهى تستدعى إجماعا غربيا أمريكيا غائبا الآن. لكن هذا المنطق يتجاهل واقع العالم وحقيقة أن هناك تناغما وتحالفا دوليا نشأ فى غمار أحداث الأعوام العشرين الماضية، وهو تحالف الكيانات والدول التى كانت على شفا النهاية تحت تهديد حد السكين الأمريكى والإسرائيلي. وهو تحالف الدول التى ذاقت الأمرَّين فى العقود الأخيرة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. ويقال إن الاقتراب من الموت هو أكبر محفز للحياة. فروسيا التى كانت على شفا الموت شهدت تجرؤ الولاياتالمتحدة عليها فى حشد الثورات البرتقالية فى جنباتها من أوكرانيالجورجيا لداخل روسيا ذاتها، بل وتطاولت إسرائيل على العملاق النووى الروسى فدعمت المرتزقة فى جورجيا وإبخازيا فسقط جنود ومواطنون روس بأيادى مرتزقة مدعومين ومتمرنين من قبل إسرائيل محدودة القيمة مقارنة بالعملاق الروسي. عادت روسيا إلى الحياة بتحالف الشيوعيين والقوميين الروس فهم من يديرون روسيا اليوم. عادت روسيا عبر رحلة معقدة طويلة استمرت عشرين عاما، ولكنها عادت بمنظومة عسكرية متقدمة تحمل فى طياتها خروجا عن المتعارف عليه عسكريا، فقفزت لتكون قادرة على إصابة عالم الغرب بالشلل الإلكترونى الكامل والمفاجئ، وما قد يصاحب هذا من انهيارات مالية ضخمة وشلل فى مختلف جوانب الحياة؛ هذا بغض النظر عن تطور قدراتها العسكرية التقليدية والنووية فى جميع المجالات. يمتد (حلف حد السكين) أيضا ليضم الصين الثرية التى تدرك بعمق أن العملاق الأمريكى يضمر لها الشر. فلقد اعتادت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها تصفية أى قوة إقليمية مهما صغرت. والعراق وليبيا نماذج حديثة استؤصلت أنظمتها السياسية لأنها تجرأت على الممانعة. وكان لهذا التجرؤ ثمن، فلقد فتكت القوى العسكرية الدولية بنسيج تلك المجتمعات وتركته أشلاء نازفة حتى اليوم. فالصين تعلم أنها عدو معلن وليس أمامها إلا الاستناد للعناد. أما كوريا الشمالية فهى تعلم أن حياتها قصيرة إذا لم يكن لها منظومة صاروخية مسلحة وحلفاء من موسكو لبكين. ولهذا فإن (حلف حد السكين) المترابط يستند دون إعلان على صواريخ كوريا الشمالية التى خلقت فالقا عسكريا جيواستراتيجيا فى بحر اليابان. ويستند الحلف كذلك إلى بحر أموال الصين التى صارت أكبر دائن للولايات المتحدة. أما إيران فهى حليفة لروسيا. تحالف حد السكين ليس بجديد، فمن يدقق فى الأمر سيجد جذوره فى عام 2006، فى معركة حزب الله مع إسرائيل. فالتكنولوجيا التى تعامل بها حزب الله فى هذه المعركة مع إسرائيل تتجاوز قدراته وتحتاج لدعم قوة عظمى وهى فى الأغلب روسيا، فلا يوجد غيرها. امتدت تداعيات تلك التجربة حديثا لمعارك غزة وصواريخها التى يروج لأنها نتاج عمل ذاتى محض، بينما هى فى حقيقتها تكنولوجيا متقدمة ينقلها وسطاء محليون سوريون لبنانيون ايرانيون. هذا الحلف الكبير يمتلك قدراتٍ عسكرية وإستراتيجية كبيرة جدا، ولكنها لا تكفى لإنزال هزيمة عسكرية ساحقة بالغرب، ولكنها تكفى بلا شك لصنع أزمة إستراتيجية كونية تجبر الجميع على الاعتراف بحقائق جديدة. فإذا أطلقت إحدى دول هذا الحلف الطلقة الأولى عبر الخليج أو من سماوات غزة أو جنوبلبنان، فإن التداعيات ستكون كبيرة وضخمة، لا يشابهها فى حجمها إلا تلك فى حرب السويس عام 1956 عندما أمم جمال عبد الناصر قناة السويس. فقبل أزمة السويس عام 1956 كان الاسترلينى عملة دولية عملاقة وكانت بريطانيا إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس. ومع نهاية الأزمة انهار الاسترلينى وسقطت الحكومة البريطانية، فظهر العالم ثنائى القطبين بين الاتحاد السوفيتى والولاياتالمتحدة. فهل تكون الطلقة الأولى من غزة أو من إيران أو من حزب الله بداية لمواجهة دولية تؤدى لأزمة خليجية، ولانفلات أسعار النفط وارتفاعها بشكل كبير جدا... وهو ما يهدد بدفع شمال العالم لكساد اقتصادى مميت. أزمة قد تصاحبها هيروشيما إلكترونية تغلق بورصات العالم وتطلق العنان لذئاب المضاربات الدولية على العملات. تُرى هل أزمة شرق السويس الجديدة قد تصاحبها سكتة إلكترونية دولية فيتوقف البيع والشراء الإلكترونى بكروت الائتمان؟ هل تتهاوى قيم عالم السمسرة الرقمية عديمة الإنتاج. ففى نهاية الأمر فإن شركات كونية كأمازون وأوبر هى شركات سمسرة وليست شركات إنتاج. ترى هل تفجر مواجهة شرق السويس الجديدة فقاعة الثروات العقارية. ألا يمكن أن ينهار الدولار كعملة دولية ومعه منظومته البترودولارية. أليس هذا هو الانتقام الروسى من انهيار الاتحاد السوفيتي؟ أليست تلك الأزمة ضرورية لتحرر الاقتصاد العالمى من سحر المضاربات العقارية وإطلاق الأموال الحبيسة فى المبانى للاقتصاد، أليست أيضا ضرورية لإعادة القيمة للمنتجات الحقيقية كالمواد الخام والمحاصيل الزراعيه والمصنوعات الثقيلة مقارنة بسيادة وتفجر قيم البرامج الإلكترونية. قد تكون تلك أزمة ضرورية. أزمة تجبر الولاياتالمتحدة على الاعتراف بعالم متعدد الأقطاب، فيعود توازن المصالح مصاحبا بالشرعية الدولية. عالم جديد نتيجته ستكون تراجع هيمنة عالم القطب الواحد وغطرسة إسرائيل وسيادة قطاعات اقتصادية عقارية وإلكترونية غربت شمسها. هذا الخيال لا بد أنه يداعب أطرافا ما فى (حلف حد السكين). قد تكون إرادة هذا التحالف لم تصل بعد للهجوم ولكن اقتراب السكين من حبل الوريد يجعلها حتمية إلا إذا راجعت الولاياتالمتحدة حسابات المكسب والخسارة لتلافى الدخول فى حرب ضروس شاملة. فبغض النظر عمن يطلق الطلقة الأولي، فلا مسار تاريخى إلا الإقرار بعالم متعدد الأقطاب... عالم ما بعد السويس أو ما بعد شرق السويس. لمزيد من مقالات ◀ د. حازم الرفاعى