أمريكا تراجع أفكارها الاستراتيجية د. محمد قدري سعيد تمر الولاياتالمتحدةالأمريكية حاليا ومنذ بداية العام الماضي بفترة مراجعة فكرية عميقة حول المستقبل, ودورها في العالم. ومن المتوقع أن تستمر هذه المراجعة إلي ما بعد وصول الإدارة الجديدة إلي البيت الأبيض مع بداية العام القادم. لم يحدث من قبل منذ انهيار حائط برلين وانتهاء القطبية الثنائية أن تجمع في الأفق مثل هذا الكم من الأسئلة والشكوك وعدم اليقين حول دور الولاياتالمتحدة, القطب الأعظم الوحيد, الذي نعته كثير من المفكرين الأمريكيين بأن دوره' لا يمكن الاستغناء عنه'. هل ما نراه الآن مجرد عثرة علي الطريق سوف تنهض منها الولاياتالمتحدة أقوي مما كانت عليه كما حدث بعد فيتنام وأن الأمر لن يحتاج إلا لمجرد تكيف في الرؤية وتصحيح في الفكر والتنفيذ. أم أن الزخم الأمريكي قد فقد طاقته علي الزعامة بصورتها الحالية, وأن تحولات جديدة متراكمة علي مستوي العالم سوف تنال منه وتعيد تشكيل دوره في إطار مختلف جديد؟. لقد سارت الأمور علي خير ما يرام وفي منحني صاعد بالنسبة لأمريكا منذ بداية القرن العشرين. فقد سقط منافسوها في القارة الأوروبية( ألمانيا الهتلرية) والآسيوية( الاتحاد السوفييتي) لأول مرة في التاريخ أمام قوة من خارج الفضاء القاري الأوروبي-الآسيوي لا تملك من بضاعة القوة إلا قدرة اقتصادية نامية ترتكز علي حرية السوق, وموهبة الإنسان, وثقافة التجريب والابتكار; الأمر الذي جعلها برغم نوبات العزلة القصيرة لاعبا أساسيا في حسم الحربين العالميتين الأولي والثانية, وما جاء بعدهما من تسويات سياسية وجغرافية. وقد صاحب هذا التطور تواجد بحري أمريكي متطور في المحيطين الأطلسي والهادي وفي المتوسط, ووفرت قناة بنما وقناة السويس معابر استراتيجية مهمة للبحرية الأمريكية بين القارات. لقد انتهت حقبة الهيمنة الأوروبية علي العالم بنهاية الحرب العالمية الثانية. وانتهي النفوذ السوفييتي علي مناطق واسعة من أوروبا وآسيا مع سقوط حائط برلين. ليخلو وجه العالم للولايات المتحدة وتتمدد هيمنتها من خلال حلف الناتو فوق أوروبا القديمة والجديدة وحتي حدود روسيا التي راهنت أمريكا علي طيها تحت الجناح من خلال إعطائها مكانا في المنتديات الخاصة مثل منتدي الدول الصناعية الكبري وحوارا مع حلف الناتو. ثم حرصت علي وضع حدود للمشاريع الأمنية والعسكرية للاتحاد الأوروبي خارج حلف الناتو, كم أن عينيها لم تتوقفا عن مراقبة صعود القوتين الصينية والهندية, وتجليات هذا الصعود اقتصاديا وعسكريا. هناك بالتأكيد إنجازات مدهشة حققتها الهيمنة( أو بتعبير آخر الزعامة) الأمريكية علي العالم منذ انتهاء الحرب الباردة معظمها كان في القارة الأوروبية. ومن أبرزها سقوط الحكومات العسكرية والايديولوجيات الشمولية, وما صاحب ذلك من خلق فضاء واسع يمارس الاقتصاد الحر ويتبني المبادرة الفردية والديمقراطية السياسية. هذا النجاح لم يتحقق علي نفس المستوي خارج أوروبا في جنوب وشرق المتوسط, لكنه أثمر معجزة اقتصادية آسيوية في جنوب وشرق آسيا, وقد بدت معضلة الشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة في سبيلها للانفراج بعد نجاح عملية السلام بين مصر وإسرائيل, وطرد صدام حسين من الكويت بواسطة التحالف الدولي تحت قيادتها. إلا أن الغيوم بدأت في التجمع مع الثورة الإيرانية, وتعرض حلفاء أمريكا في المنطقة لموجات الإرهاب, الذي طال أيضا مصالحها في إفريقيا, ووجودها في البحر الأحمر, إلي أن وصل في نهاية الأمر في11 سبتمبر إلي نيويورك وواشنطن بعد وصول الرئيس بوش إلي البيت الأبيض بفترة وجيزة. وقد تواكب هذا الحدث مع سيطرة فكر استراتيجي أمريكي يميني يرسخ زعامة أمريكا للعالم, ويعطي لقوتها العسكرية دورا أساسيا في رسم سياستها الخارجية. يقترب حكم الرئيس بوش من نهايته وأحوال الولاياتالمتحدة علي المستوي الدولي ليست كما كان يتمني من البداية. المشكلة الفلسطينية تعقدت بأكثر مما كانت عليه من تعقيد مع سقوط ضحايا من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني كل يوم تقريبا مصحوبة باحتمالات منذرة بسقوط المنطقة كلها إلي هوة حرب إقليمية. المواجهة مع إيران تصاعدت حول برنامجها النووي وسياساتها الإقليمية إلي حد التهديد بالحرب. مسائل أمن الطاقة وأمن البيئة وتفكك الدول وانهيارها تفاقمت كما يجري في الصومال وفي السودان وفي مناطق أخري من إفريقيا. وقد صاحب هذه المتغيرات تمدد للنفوذ الصيني في آسيا وإفريقيا, وتعقد في العلاقات مع روسيا بسبب سياسات الولاياتالمتحدة تجاه دول أوروبا الشرقية التي كان بعضها من قبل جزءا من الاتحاد السوفييتي السابق, وعزمها علي نشر نظام للدفاع الصاروخي في بعض الدول القريبة من الحدود الروسية. وفوق كل ذلك تعثرت الحملة العسكرية في العراق وأفغانستان إلي حد التفكير في الانسحاب من هناك. وبرغم ما أنفق عليها لم تحسم الحرب ضد الإرهاب, بل زادت أعداد الخلايا الإرهابية التي تكتشف كل يوم. ومن ناحية أخري, وفي ظل ثورة الاتصال وتداخل الأسواق, لم يعد الإبداع والابتكار والكيانات الاقتصادية العملاقة حكرا علي أمريكا وحدها. في ضوء ما سبق, يتجه الفكر الأمريكي هذه الأيام إلي مراجعة مفهوم الزعامة الأمريكية بدون التخلي عن مشروعها وأهدافها النهائية. معظم من صاحب الرئيس بوش إلي البيت الأبيض في رياسته الأولي كانوا من المبهورين بانتصار أمريكا في الحرب الباردة واعتبره البعض نهاية للتاريخ. لقد جاء معظمهم من صلب أفكار القوة والضعف, والحسم العسكري, والقرن' الأمريكي الجديد'. وعلي العكس من ذلك تتردد الآن من رحم الأزمة الأمريكية الحالية أفكار أخري عن غزو' العقول والقلوب', وإعادة تكييف الأهداف, وتوسيع مجال التحالفات, والمشاركة في التخطيط والتنفيذ. علي سبيل المثال يتجه حلف الناتو الذي قدم لأمريكا منذ نشأته شرعية العمل الجماعي إلي مزيد من عولمة دوره, حتي أن البعض يراه بديلا عن الأممالمتحدة, أو داعما عسكريا لها. لقد وصل عدد الدول الأعضاء في حلف الناتو إلي26 دولة بخلاف دول أخري تشاركه الحوار والتدريب ونقل الخبرات وحفظ السلام في مناطق كثيرة من العالم. إن حلف الناتو متورط بالفعل في حرب حقيقية في أفغانستان ويشاركه مسئولية الحرب وعمليات إعادة البناء عدد كبير من الدول. ويتولي الحلف في نفس الوقت عمليات حفظ السلام في كوسوفا, ويسهم في الإصلاح الأمني للبوسنة والهرسك, وتجوب سفنه المتوسط لحفظ الأمن فيه ورصد الإرهاب, ويدعم جهود السلام في دارفور بتولي عمليات النقل الجوي للقوات والمعدات, كما يتولي تدريب القوات العراقية, ويشارك في عمليات الإنقاذ كما حدث في أعقاب زلزال باكستان, كما يمد حواراته الأمنية بعد دول المتوسط إلي الخليج ودول الباسيفيك. هناك بالتأكيد عدد من الفروق المهمة بين الفكر الأمني الأوروبي ومثيله الأمريكي وإن اتفقا في الأهداف الكبري. هناك أيضا حقيقة أن الاتحاد الأوروبي قد وضع لنفسه سياسة دفاعية مستقلة وإن أقر بأولية الناتو في الدفاع عن أوروبا. وقد ظهر ذلك جليا خلال أزمة غزو العراق, ورفض دول كبري في الاتحاد الأوروبي مثل فرنساوألمانيا دعم الخطط الأمريكية في هذا السياق. وفي ظل المأزق الأمريكي الحالي في العراق وأفغانستان هناك محاولات فكرية لإعادة التجانس في التفكير الاستراتيجي الغربي بمعناه الواسع من خلال تبني حزمة واسعة من الأولويات أهمها توسيع مساحات التشاور والحوار مع الحلفاء والأصدقاء في إطار من الصراحة والفهم المشترك علي المستويين الاستراتيجي والتعبوي. وهناك دعوة إلي تحويل لقاءات الرؤساء ووزراء الخارجية من مجرد مقابلات احتفالية إلي الغوص في عمق المسائل الاستراتيجية والوصول إلي حلول عملية لها. ويجب الاعتراف بأن الولاياتالمتحدة كانت تتحمل باستمرار العبء الأكبر في عدد القوات والأسلحة, وأن حجم التحديات الحالية يستوجب مشاركة أكبر من الدول الأخري علي المستوي المادي والبشري. ويدعو الفكر الجديد إلي مزيد من عدم المركزية والتعاون الإقليمي في مواجهة التحديات الإقليمية وهو ما تدعو إليه أمريكا بين دول شرق آسيا مثل اليابان وأستراليا ونيوزيلندا. وفي الخليج بين مصر والسعودية ودول مجلس التعاون. وكذلك علي مستوي المنظمات الإقليمية مثل منظمة الأمن والتعاون الأوروبي والأممالمتحدة والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي. وعلي رأس قائمة المقترحات ما يتصل بالتدريب المشترك, وتجانس نظم الأسلحة, والثقافة العسكرية والأمنية, في عالم لم يعد يقبل بالخصوصية حتي في شئون القتال والحرب. عن صحيفة الاهرام المصرية 19/4/2008