السبت الماضى كان يوما تاريخيا فى حياتى الشخصية، فقد عبرت فى العاشرة صباحا إلى سيناء من معدية 6 القديمة، لاحظت حركة العبور تتم بيسرغير معتاد، سألت ضابط التفتيش بعد أن فرغ من فحص الأوراق والرخص: ألا يوجد زبائن اليوم؟ أجاب بابتسامة: انت ناسى إن النفق انفتح؟ انطلقت بسيارتى ولم أمكث فى «غيطنا» أكثر من عشر دقائق، لم أحزن على الزيتون الناشف وتعطل ماكينة الرى بسبب الشروط المشددة لبيع الوقود حتى لا يصل للجماعات الإرهابية، فقط سألت نفسى السؤال الذى لا أجد إجابته عند مسئول: لماذا لاينشئ جهاز التعمير إدارة لتشغيل ماكينات الرفع للأراضى التى لا تصلها مياه الترعة؟ كنت متلهفا للعودة عن طريق النفق الجديد، اصطحبت أسرتى خصيصا لمشاركتى فرحة عبوره لأول مرة، تذكرت آخر زيارة إلى سيناء منذ ثلاثة أشهر كان يوم العاصفة الترابية، التى اقتلعت الأشجار، قررت أن أهجر الزراعة بسبب طابور التفتيش الذى انتظرت فيه أكثر من 7 ساعات، كتبت يومها أننى كنت أتابع رحلة سفر «عزيز» من القاهرة لأوروبا، قضى ساعة ترانزيت فى روما ثم سافر إلى فيينا ومنها إلى برلين ثم وصل بالقطار إلى شتوتجارت، بينما لم تتحرك سيارتى نحو المعدية أكثر من 100متر، يومها سألنى الضابط الذى لم تمنعه عاصفة التراب الكثيف من أداء عمله بمودة: ما رأيك فى كوبرى الشهيد أحمد منسى الجديد؟ أجبته وقتها بغضب: إن منسى ورفاقه استشهدوا لتسهيل انتقال أمة من عصر التخلف إلى عصر أكثر احتراما لكرامة الانسان! وهذا العصر المتمدين دخلته مع مصر كلها يوم السبت الماضى حين وصلت ساحة الأنفاق الجديدة بالإسماعيلية، استمتعت بتحضر الإجراءات فى ساحة نظيفة ومتسعة بها أكثر من 40 مدخلا للتفتيش مرة واحدة، وخدمات للعابرين دون الخروج من سياراتهم، لم أمكث أكثر من دقيقة، التعليمات واضحة, لا تقف بسيارتك على الجهاز ولا تتخطى سرعة ال50كيلو، وجدنا أنفسنا أمام فتحة صرحية لنفقين عملاقين، تعمدنا التلكؤ لنستمتع بلغة ضيافة احترافية من جنود الخدمة، كأننا نزلاء فندق خمس نجوم، يدعو لك مضيفك بطيب الرحلة، ونحن فى خدمتك: انت فى الطريق إلى أسفل القناة.. أنت الآن تحت جسم القناة، وضوح الإرشادات وهمس أجهزة التهوية والاضاءة والأناقة المعمارية نقلتنا إلى عصر احترام العقول والمتعة البصرية. انتهت إلى غير رجعة إجراءات التفتيش الذاتى والإطارات والأبواب والصدور، ومعها ولى ملل انتظار المعدية لحين عبور حاملة طائرات أو ناقلة بترول او باخرة من السويس الى بور سعيد قبل أن تتحرك المعدية وننتظر على القناة الثانية لمرور قافلة الشمال الى السويس، تفتيش وعبور وانتظار وتفتيش وفحص، لكن فى الأنفاق الجديدة أنت من أهل الحظوة تعبر قناتين وعصورا بفركة كعب، فتحات تكييف.. مخارج للطوارئ..أماكن انتظار.. طفايات أمان.. مسارات عرضية تتصل بالنفق العكسى، بوابات صرحية وأبواب وهمية ورموز لا يعلم سرها الجن الأزرق، وما خلفها من احتياطات تجعلها سلاما على الأمناء، جحيما على أعداء النفق بكبسة زر، أرى النور داخل النفق وليس فى نهايته، فعلا.. كلما تطورت تكنولوجيا الأمان وتطورت إجراءات المراقبة وتحضرت شعرت بحرية الحركة دون حاجة لمن يعد عليك أنفاسك، ورغم الأسرار الحربية التى نتحرك داخلها لا توجد لوحة تمنعنى من التصوير، طلبت منى زوجتى أن نركن فى موقف جانبى لنلتقط صورة للتاريخ، صورت فيديو وفوتوغرافيا سنجل وسيلفى وجماعة، تحركنا بأقل سرعة مسموحة، لتطول الرحلة داخل النفق، وفى نهايته توقفت وألقيت نظرة على منطقة النفقين، وعادت بى الذاكرة إلى رمضان 2012 حين اصطحبت أبطال الكتيبة 12 مشاه بأبنائهم وأحفادهم بينهم 16 لواء بالمعاش كانوا من قادة وجنود سرايا العبور الأولى عام 1973يومها شرح لى اللواء رجب عثمان قائد الكتيبة فى حرب رمضان أن هذا المكان كان يسمى تبة الثمانيات والسبعات وهى الساحة التى جرت فيها أشرف المعارك قبل أن تتقدم الكتيبة لاحتلال موقع القيادة الأمامى للعدو، يومها قال لى اللواء طلبة رضوان الذى كان قائد السرية الأمامية التى عبرت قبل ساعة الصفر بربع ساعة لكى تحتل تبة السبعات والثمانيات قبل وصول العدو: إن تحرير هذا المكان فتح طريق سريتى إلى تبة الشجرة. وكأن هذا المكان على موعد ليكون البداية لتحرير سيناء ومصر كلها من سواد التراجع الى نور الإصلاح والتنمية، ولولا هؤلاء الأبطال وتضحياتهم فى مواجهة الاحتلال والارهاب ما عادت سيناء لحضن الوطن، وماكانت أنفاق تحيا مصر الأربعة التى جعلت سيناء والوطن كتلة جغرافية واحدة وحولت منطقة القناة إلى شريان حضارة تهديه «مصر إفريقيا» لحركة التجارة والتفاعل الإنسانى بين قارات الدنيا. لمزيد من مقالات ◀ أنور عبد اللطيف