توقفت حركة العبور من غرب سيناء إلى شرق الاسماعيلية.. حين زحف أسطول من الناقلات العملاقة تمخر المجرى الملاحى لحظة الغروب من الجنوب إلى شمال قناة السويس الجديدة.. أعطيت جنبى للقناة انتظارا لتحرك «العبارة نمرة ستة» ..لأستمتع بتيار من الهواء البارد يأتينى عكس الاتجاه.. توقف معى خلق كثير مترجلين من مختلف الأعمار والأنواع والأزياء ممن ترتبط حياتهم يوميا بالعبور فى الاتجاهين.. واصطف طابور طويل من السيارات ينتظر دوره أمام العبارة .. شدنى رتل من ثلاث سيارات جيب يحمل تشكيلا من الجنود بكامل شدتهم العسكرية وبأقنعة سوداء .. كأنهم قادمون من مهمة قتالية، ويتحصن كل منهم فى صديرى ضد الرصاص وأصابعهم على زناد البنادق الآلية، وما إن اصطفوا علي العبارة وسط الناس حتي بدؤوا يتخففون من شدتهم وخفت درجة توترهم.. ورفع بعضهم عن وجهه الأقنعة السوداء وأسند بندقيته بين ساقيه.. وتجاوب بعضهم مع باعة السجائر والحاجة الساقعة والنظارات.. استرحت إلى الشعور المفرط بالأمن، رغم أن هذا الخليط من الركاب والباعة والمركبات والجو السياسي المحتقن يفرض عليهم المزيد من الحيطة والحذر.... وجماعات التطرف التي تنطلق من جبال سيناء والتى خلطت التجارة باسم الغيرة علي الدين بالدفاع عن «شرعية» أنظمة وكراسي وحكام.. ولدواع عسكرية تراجعت بتقدير شخصى عن عادتى فى التقاط الصور التذكارية مع السفن العملاقة فى كل مرة استمتع فيها بعبور القناة .. كما أغنتنى عن التصوير وقفتى فى جوار هذا الرجل السبعينى الذى وصف مهمة الجنود فى مطاردة الإرهاب بجبل الحلال ووادى السر والقوارير بالبطولية، لكنه تساءل مع نفسه كأنه قائد يعاتب أبناءه جنود هذا الزمان بصوت سمعته: كيف تتحفزون لحركة أى فأر وأنتم وسط التلال والرمال وتأمنون وسط هذا الخليط من المدنيين؟ علقت على عتابه: دول أبناؤنا يا «حاج» وهم هنا وسط أهلهم والدار أمان. فالتفت إلى وقد لمعت الذكريات فى عينيه واختلطت بأشعة الغروب المنعكسة على صفحة مياه القناة.. لكن .. الجيش جيش ثم تنهد : ياه كانت أيام .. الله يرحمك يا سيد. رددتها خلفه لا إراديا: الله يرحمه وكل اللى عبروا سينا ومارجعوش تانى. ثم أضفت: لولا سيد ما كنا الآن فى هذا المكان. مر شريط ذكرياتى مع أخى الشهيد سيد.. وشجعنى إصغاؤه .. فقلت: عبر سيد القناة فى الأفواج الأولى ثم جاءنا خبر استشهاده يوم 13 أكتوبر 73 ضمن سرية استطلاع خلف خطوط العدو. وكل أسبوع أتساءل فى نفسى : كيف عبر من هذا المكان ولم يعد، بحثت مع أبى يرحمه الله عن قبره لسنوات دون جدوى، ثم عاودت البحث مرة أخرى بعد 30 سنة تحت إلحاح أبنائى الذين أصروا على العثور على مكانه لكى يزدادوا فخرا بزيارة قبر عمهم الشهيد، وفى سجلات الجيش الثانى رق قلب العريف سعيد إشفاقا علىّ من كثرة البحث بين القاهرة ومقابر الشهداء فى حى الأربعين، وفى الكيلو 65 طريق السويس، ثم فى ملفات معسكر الجلاء وأرشيف هيئة التنظيم والإدارة، فاقترح علىّ أن أوفر هذا المجهود فى صدقة جارية على روحه الطاهرة، ونطت فى رأسى فكرة أن أشترى قطعة أرض فى نفس مكان عمليات الفرقة 16 مشاة، واشتريت قطعة الأرض وزرعت الزيتون ومازلت أحلم باللحظة التى أجنى فيها الثمار وأوزعها مجانا على كل عابر، كما أحلم باللحظة التى أقرأ فوقها لوحة باسم «جنة الشهيد» خلف وادى التكنولوجيا فى طريق الاسماعيلية الجديدة.. توقفت عن الاسترسال فى ذكرياتى وسألته: لكن من هو سيد الذى جاء إلى ذاكرتك؟ أعطاه اهتمامى شعورا بالمودة فراح يحكى.. كنا فى نفس المكان.. ليلة شتاء من عام 1968 .. حين هزم البرد والظلام أصوات الانفجارات، وانقطعت دانات مدفعية العدو الثقيلة التى تواصلت طوال النهار، على عشش الصيادين وبيوت العمال ومبنى الهيئة، وكانت الأوامر قد صدرت لنا في أوائل ذلك العام ونحن على الجبهة بعدم الاشتباك مع العدو مهما تعرضنا لمحاولات الاستفزاز التي يقوم بها قاصدا ضرب المدنيين والذين لم يكتمل تهجيرهم من مدن القناة، وكنت وقتها قائدا لفصيلة مشاة برتبة ملازم أول وأحتل موقعا دفاعيا قبالة هذه المعدية نمرة 6 بالاسماعيلية ..والعدو الذي أمامي من قوات «الناحال» وهي قوات شبه نظامية في الجيش الاسرائيلي.. وكان أسلوبهم فى إطلاق المدفعية طبقا لما رأيت ودرست وعايشت هو عدم الانضباط والفوضى وعدم الحرفية، فقد كانت طلقاتهم تهدر فوق رؤوسنا بشكل عشوائى أرعن دون اهتمام بالتدقيق ليختفى بسرعة وسط تلال واسعة من الرمال باستحكامات متنوعة من التمويه، ولا يهمه حين يطلق مدافعه أن يصيب بيتا أو مسجدا.. ولا يفرق بين جاموسة متحركة وقطيع من الغنم أو ناقلة جنود، برغم أن المسافة التي تفصل موقعناعن موقعهم فى بطن تبة السبعات والثمانيات حوالي 180 مترا فقط وهى عرض القناة.. كنا هناك.. وأشار بيده إلى المسجد الموجود حيا إلى الآن منذ أقيم فوق البقعة التى ارتوت بدماء الفريق عبد المنعم رياض عام 1969.. وكانت السكتة الملاحية التى أصابت القناة قد تجاوزت عامها الثانى منذ يونيو 1967.. فى تلك الليلة ماتت الحياة تماما على الشاطئ.. بفعل موجة البرد والصقيع، وهبطت الشبورة وانعدم مجال الرؤية البصرية.. وبينما تحركت عيون رجال «الشنجى» الذى استلموا خدمتهم فى فصيلتنا منذ منتصف الليل داخل الخنادق خلف النظارات المعظمة، واطمأن كل جنودى إلى أن النقطة الحصينة للعدو المواجهة لموقعنا الدفاعى كامنة ولا تزال أصغر من سن نملة الدبانة فى بنادقهم، أمرنى سيد فى أثناء مرورى بصوت أراد أن يشحنه بالشجاعة والقوة فخرج منه مشروخا ومحزونا: كلمة سر الليل. فأجبت بسرعة: شهيد. ثم قفزت إلى حفرته، ومرت دقائق حاول فيها جاهدا أن يجمع شتاته ويداري ارتباكه، نظرت إليه ففضحته دمعة حاول إخفاءها، انتفض لها قلبى وامتدت يدى بحنو وطبطبت على كتفه فحكى: والدى مسن، ووالدتى مريضة، وأرعى أخوتى الصغار، وكنت عائل أسرتى الوحيد من عملى على تراكتور لشركة المقاولون العرب فى السد العالى، براتب مائتى جنيه فى الشهر، وبعد تجنيدى منذ سنة صار راتبى جنيهين، ولا أعرف كيف أرد على خطاب والدى بعد أن نفد ما ادخرناه فى غيابى، ولا أضمن أن أجد هذا العمل على التراكتور بعد انتهاء خدمتى. فقلت له بصوت خشن وأنا أضرب كتفه برجولة: الخدمة على خط النار تحتاج للرجال، والفقر مش عيب لكن التفكير فى الأهل بدموع معناها تعريض حياتك ووطنك للخطر. تركت القائد المخضرم يتحدث دون أى أسئلة تمنع استرساله وكأنه يقرأ صفحات من كتاب: وعندما عدت إلى خندقى وجدتنى أكتب: السيد الوالد المحترم رئيس شركة المقاولون العرب ، مقدمه لسيادتكم الملازم أول طلبة رضوان قائد الفصيلة رقم 3 كتيبة 12 بالجيش الثانى الميدانى، بمرورى على أفراد فصيلتى شاهدت الحزن فى عيون الجندى السيد عبد النبى مصطفى، ورغم أنه حاول أن يدارى دموعه إلا أننى أمرته أن يحكى، فعرفت أنه كان سائقا على تراكتور بشركتكم الموقرة بمبلغ كان كافيا لستر أسرته ورعاية أبويه المسنين، والآن بعد تجنيده صار راتب الجندية عاجزا أمام مطالب الحياة، وعشمى في كرمكم يجعلني أرجوكم الموافقة على حجز مكانه فى الشركة.. ليطمئن إلى مستقبله بعد انتهاء خدمته بالقوات المسلحة. وبعد أسبوع جاءنى خطاب عرفته من طابع البريد الذى يحمل صورة أبو الهول : قرأت بإعجاب خطابكم وأعجبنى اهتمامكم بروح جنودك على خط النار، وأسعدنى حرصك على رفع معنوياتهم ومشاركتك همومهم ومحاولتك التخفيف من آلامهم .... برجاء الحضور مع الجندى «السيد عبد النبى مصطفى» لإدارة الشركة بشارع مراد بالجيزة. ولم أتمالك نفسى من الفرح على هذا الرد ، فانطلقت بالخطاب إلى قائد الكتيبة المقدم سمير الحملاوى، واستأذنت فى سرد ماحدث وقبل أن أكمل الحكاية أمرنى قائدى : لا تضيع الوقت. ثم أخرج من جيبه خمسة جنيهات وكلفنى بمهمة السفر إلى القاهرة بصحبة الجندى مع أول ضوء للنهار. وفى مقر الشركة كان المهندس عثمان أحمد عثمان رئيس مجلس الإدارة فى استقبالنا بباب مكتبه بجسمه المربع المدكوك ووجهه الأسمر الذى تضيئه ابتسامة مرحبة، ثم أبدى حرصه على عدم إضاعة أى دقيقة من وقتنا فى الانتظار، وأخرج من درج مكتبه عقد تعيين للسائق السيد عبد النبى، وقال: وقع يا سيد. وقرأ بصوته الأبوى الحنون: يبدأ سريان العقد من تاريخ التحاقه بالقوات المسلحة. ثم حرر شيكا للسيد براتب السنة المنقضية وسأله عن العنوان الذى يرغب فى إرسال راتبه اليه كل شهر، فكتب السيد عنوان والده بالدقهلية..... وبعد العودة للكتيبة صار السيد من أكفأ العناصر فى كتيبتنا تدريبا واستيعابا والتزاما وشجاعة، وكان يلازمنى كظلى خلال المشاريع التدريبية، لم يعد ذلك الفلاح الطيب المكسور أمام الفقر، الذى كنت أعرفه وأشفق عليه، لكنه صار يتميز بعسكرية صارمة وناشفة وهيبة تشجعنى على الثقة به. كان بسيطا في تعامله مع الجميع ولكن لا يتنازل مطلقا عن قواعد الميرى وحقوق الجيش، أحببته وصار بيننا حبل من الود وعندما أراه ولو بعد دقيقة نحيي بعضنا بشوق ومودة.... ..واندلعت حرب أكتوبر المجيدة فاختاره المقدم رجب عثمان قائد الكتيبة الجديد ليكون معى فى المفارز الأمامية، وعبرنا القناة يوم 10 رمضان، وحررنا مركز القيادة والسيطرة للعدو فى تبة الشجرة ، وفى يوم 16 أكتوبر كثف العدو من غاراته الجوية على موقع كتيبتنا انتقاما لموقع قيادته الذى استعدناه، وكنت فى حفرتى حين اندفع السيد من حفرته، وألقى بنفسه فوقى لحظة انفجار قنبلة للعدو على حافة الخندق، وأحدث الانفجار بركانا من التراب والدخان الكثيف، وشعرت بنبض قلبه فوق رأسى، فقلت له ضاحكا: فعصتنى فرد ب آااااه ... ممتدة بدأت عالية ثم ظلت تخفت حتى تلاشت. وعندما انجلى الغبار والدخان شعرت بدمائه الساخنة تغمرنى، وحين نظرت إلى وجهه، كان بهيا وكان خيطا هادئا من دمه العطرى ينساب من فمه، بينما تجمدت عيناه فى نظرة رضى كأنها تعانق جنة لا أراها. ............... صرخت العبّارة فى استعجال أعقبه دوران مفاجئ لمحركاتها، فاندفع خلفها بقوة تيار هائج من المياه، فتنبهنا إلى دورنا في العبور إلى الشاطئ الآخر.