سقطت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي واعترفت بفشلها واستقالت من منصبها لتنهال عليها طعنات سكاكين وسائل الاعلام ولعنات زملائها قبل خصومها إلي حد تحذير البريطانيين من التعاطف مع الدموع التي انفلتت من عينيها وهي تودع منصبها الذي وصفته بأنه «شرف حياتها». ثلاث سنوات عاصفة قضتها ماي في 10 داوننج ستريت كانت أشبه بالمأساة الإغريقية. فقد تولت رئاسة الوزراء في 13 يوليو 2016 عقب استقالة سلفها ديفيد كاميرون وورثت ملف الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي «البريكست». ويري البعض أن تولي ماي رئاسة الوزراء كان منكوبا منذ البداية، حيث إنها كانت بصدد أكبر تحد يواجهه رئيس وزراء بريطاني منذ عام 1945. ووفقا لستيفن ستيرن الكاتب بصحيفة الجارديان البريطانية فان ماي ضحية سيناريو «الحافة الزجاجية» وهو التعبير الذي صكه أكاديميان بريطانيان في جامعة أكستر في عام 2005 لوصف نهج تتبناه كثير من المؤسسات والكيانات الكبرى يعتمد علي ترقية النساء، واحيانا أبناء الأقليات، للمناصب العليا في أوقات الأزمات والظروف الطاحنة أي في الأوقات التي يحجم فيها الرجال عن المخاطرة بمستقبلهم المهني أو السياسي.ولكن فشل ماي لا علاقة له بهذا السيناريو أو بكونها امرأة ولكنه جاء نتيجة تضافر عيوبها الشخصية مع الظرف الاستثنائي الذي تولت فيه مع الصراعات الداخلية والحسابات البرلمانية وتشبث الاتحاد الأوروبي. كانت ماي تدرك تماما صعوبة الظرف لدي تنصيبها وقالت في أول كلمة لها أمام مقر الحكومة: «نحن بصدد وقت من التغيير الوطني الكبير وأعلم ،لأننا بريطانيا العظمي،أننا سنكون علي مستوي التحدي». قبلت ماي التحدي وشعرت بأن من واجبها تنفيذ ما أراده الشعب في استفتاء 2016، وذلك علي الرغم من أنها كانت مع البقاء داخل الاتحاد الأوروبي وإن كانت نادرا ما شوهدت خلال حملة البقاء لدرجة أن أطلق عليها حينئذ «ماي الغواصة»لأنها دأبت علي الاختفاء كلما احتاج كاميرون لدعمها علنا لحملة البقاء. وبدأت ماي في التصرف وكأن تأييدها للبقاء داخل الاتحاد الأوروبي «بطحة فوق رأسها» وأرادت أن تبدد أي شكوك وتثبت لحزبها ،وخاصة جناح اليمين المتشدد ،أنها أكثر منهم حرصا علي الخروج ومن هنا نبعت عبارات «بريكست يعني بريكست»و «لا اتفاق أفضل من اتفاق سيئ» والتي كانت تكررها دائما وفسرها الأنصار في البداية علي انها دليل علي «الجرأة والصمود» وفسرها الخصوم علي أنها «تعنت»و«عناد». ويري المحللون أن ماي بوصفها أول رئيسة وزراء بعد تصويت البريطانيين علي الخروج من الاتحاد كان بامكانها الحد من صعوبات و خسائر الخروج فقد كان لديها السلطة لتحديد ما سيكون عليه الخروج وأن تكون المفاوضات مع بروكسل حول أهداف قابلة للتحقيق،وإن كان من المسلم به أنه لا يوجد علي الاطلاق ما يمكن وصفه ب «البريكست الجيد». ولكن للأسف اختارت ماي وحفاظا علي شعبيتها داخل حزب المحافظين وربما من أجل تحقيق المجد الشخصي الاستسلام لضغوط مؤيدي الخروج الخشن وتعهدت بالخروج من السوق الأوروبي الموحد والاتحاد الجمركي وما هو أسوأ سعت لتفعيل المادة 50 من اتفاق لشبونة مما حدد مهلة زمنية للخروج لا تتجاوز العامين. وانخدعت ماي في تلك الفترة بالجوائز السياسية قصيرة المدي وكلمات المديح والاطراء التي اغدقت عليها، حيث شبهت بمارجريت ثاتشر أول سيدة تتولي منصب رئيسة الوزراء وأطلق عليها «المرأة الحديدية الجديدة»وأشيد بجرأتها وطموحها وارادتها الفولاذية.وغشي عينيها الارتفاع الوقتي في شعبيتها فجازفت بالدعوة إلي اجراء انتخابات عامة مبكرة تعزز فيها أغلبية حزبها داخل البرلمان والتي ورثتها عن كاميرون .مما يمنحها قوة أكبر في التعامل مع ملف البريكست. ولكن لسوء حظها كانت تلك الانتخابات أول مسمار يدق في نعش زعامتها. فقد كشف اداؤها خلال الحملة الانتخابية عن صورتها الحقيقية كسياسية جافة تفتقر للجاذبية والقدرة علي الاقناع، أما النتائج فقد افقدتها الاغلبية واجبرت علي التحالف مع الحزب الوحدوي الايرلندي الشمالي. ومع ذلك لم تع ماي الدرس ولم تراجع نفسها أو تغير استراتيجيتها ازاء البريكست بل تعاملت مع خطتها للبريكست ،علي حد وصف أحد وزرائها، وكأنها «وصية عمتها المفضلة»التي يجب أن تنفذها مهما تطلب الأمر. وتمحورت رئاستها للوزراء حول البريكست واستمر رفضها للاستماع للآخرين، وللجوء للحلول الوسط بل و تغاضت عن مواجهة الواقع الأليم الذي فرضه البريكست علي حزبها والطبقة السياسية والشارع البريطاني من انقسام وتشرذم. وتوالت سلسلة كارثية من القرارات والاحداث ،نجت خلالها من تصويتين بسحب الثقة منها،وفشلت ثلاث مرات في تمرير خطتها للبريكست في البرلمان فضلا عن استقالة عدد غير مسبوق من الوزراء والنواب. وكان رحيلها عن منصبها أمرا محتوما فقد فشلت في تنفيذ المهمة الوحيدة التي كلفت بها وهي البريكست ونجحت في زرع الغضب والفرقة داخل حزبها وتوسيع فجوة الانقسام والخصومة بين أبناء بلدها واثارة كراهية وربما ازدراء المعارضة والقضاء نهائيا علي مصداقيتها وتاريخها السياسي لتسجل في التاريخ كأسوأ رئيسة وزراء صاحبة الإرث المسموم فقد فقزت من علي الحافة الزجاجية بملء ارادتها.