ما زالت الدعوة الإصلاحية، الجريئة وغير المسبوقة لرئيس الجمهورية بمراجعة سياسة القبول فى التعليم العالى تضع المجتمع الأكاديمى أمام اختيار (واختبار) يرقى إلى حد التحديات. ثمة اعترافٌ واجب بأننا نحصد اليوم نتائج غياب رؤية جامعية واضحةٌ فى أهدافها وأولوياتها، ومتسقة مع خطط التنمية فى المجتمع. فمنذ ثلاثة عشر عاما أنشأنا هيئة لضمان الجودة التعليمية فأين تأثير ذلك على تصنيف جامعاتنا عالميا؟ وكم عدد كليات الحقوق والآداب والتجارة الحاصلة على اعتماد الجودة؟! والمسألة فى عدم وضوح أهداف وأولويات التعليم العالى لا تتعلق فقط باحتياجات سوق العمل (موضوع المقالة الأخيرة) بل أيضاً بقدرة الجامعات على أداء دورها البحثى والمجتمعى. فللجامعات وظيفتان هما التعليم والبحث العلمى. لكن الحاصل أن الوظيفة الثانية وبخلاف ما تضمه من شباب المعيدين والمدرسين المساعدين الأكفاء أصبحت تضم جحافل من الطلاب معظمهم يختلط لديه مفهوم البحث العلمى مع عملية التحصيل المدرسى. يبرر البعض هذا التوسع المنفلت بلا ضوابط أو معايير فى قبول طلاب الدراسات العليا بالحاجة إلى دخل مادى للجامعة، وهذه إشكالية كان يمكن تجاوزها بأفكار شتى من خارج الصندوق مثل تطوير بل تثوير مراكز البحوث والخدمات الجامعية الربحية وتحريرها من لوائح العصور الوسطى المنظمة لها حاليا. فى هذا المناخ بدا ملحوظا تواضع دور مراكز البحوث والدراسات فى جامعاتنا مقارنةً بما نراه فى الجامعات الأجنبية المتقدمة، ربما باستثناء عدة مراكز ناجحة لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة. مع أن هذه المراكز المتخصصة كان يمكن أن تكون الأذرع البحثية والمجتمعية للجامعات التى تحتضنها، الأمر الذى ينعكس سلباً على الترتيب المتواضع لجامعاتنا فى أهم تصنيفين عالميين للجامعات ذوى مصداقية وثقة وهما تصنيف شنغهاى الصينى وتصنيف time higher education البريطانى. ولكى يكون الكلام محدّدا وملموسا بعيدا عن التنظير دعونا نرى كيف تبدو ظاهرة الجامعات المكتظة المختنقة فى بلادنا مقارنةً بالجامعات الأجنبية. عدد طلاب جامعة القاهرة على سبيل المثال 253 ألف طالب (وفقاً لإحصاء 2018) يزيد 8 مرات على عدد طلاب جامعة كامبريدج و9 مرات على عدد طلاب جامعة طوكيو، و23 مرة على عدد طلاب جامعة ييل الأمريكية. ولا تكتمل دلالة أعداد الطلاب إلا بالمقارنة مع أعداد هيئات التدريس. هنا يلاحظ، كمثال، أنه فى جامعتى حلوان والإسكندرية يوجد عضو هيئة تدريس واحد لكل 66 طالبا فى حلوان، ولكل 57 طالبا فى الإسكندرية بينما فى جامعة كامبريدج يوجد أستاذ لكل خمسة طلاب، وفى جامعة ييل الأمريكية أستاذ لكل ثلاثة طلاب! وتزداد النسبة لدينا تفاقماً فى كليات كبيرة العدد مثل الحقوق فيوجد عضو هيئة تدريس واحد لكل 300 طالب. بالطبع تبدو الإمكانات والظروف متفاوتة بين مصر وبريطانيا أو أمريكا، لكن المطلوب (والممكن) هو ترشيد سياسة القبول فى الجامعات من خلال بدائل جديدة لتصريف جزء من الفائض الطلابى نحو مسارات فنية ومهنية، وهو ما سوف يسهم بالطبع فى الارتقاء بمعايير الجودة التعليمية وتنشيط البحث العلمى فى الجامعات وقد تخلصت من أثقالها. أصبحت كل محاولات التطوير تصطدم من أسف بصخرة الأعداد الهائلة فى الجامعات المكتظة. ولهذا اضطرت بعض الكليات إلى إلغاء الاختبارات الشفوية لطلاب الدراسات العليا نظرا لصعوبة إجراء هذه الاختبارات لنحو ألفى أو ثلاثة آلاف طالب بالرغم من أهميتها. الجامعات الخاصة أو الإقليمية الجديدة تبقى بالطبع ضرورة للتوسع الأكاديمى لاستيعاب الزيادة السكانية والابتعاد عن التمركز فى القاهرةوالإسكندرية، لكنها تعانى قلة أعداد هيئات التدريس الكفؤة والمتفرغة. معظم هذه الجامعات تنشأ فى الغالب فجأة دون إعداد كوادر لهيئات تدريس خاصة بها فتبحث عن أساتذة من الجامعات الحكومية بطريق الانتداب، وهؤلاء معذورون بفعل المتطلبات المادية فتكون النتيجة أنهم يعملون فى مناخ مرهق وصعب من التشتت والتنقل، وفى الغالب خصما من جهدهم والتزاماتهم فى جامعاتهم الحكومية الأم. كان لدينا أنجح وأنضج تجربة لجامعة إقليمية هى جامعة أسيوط التى صدر قرار جمهورى بإنشائها فى نهاية خمسينيات القرن الماضى لكن الدراسة لم تبدأ فيها إلا بعد اكتمال مرافقها، وجاهزية هيئة التدريس الخاصة بها والتى تأهل معظمها أولاً فى بعثات دراسية فى الخارج. بالطبع هناك محاولات جاهدة ومجتهدة لتطوير التعليم العالى، لكنها تبدو مرتبكة ومشوّشة ليس لقلة فكر أو كفاءة القائمين عليها ولكن مصدر ارتباكها وتشوشها هو الخلل ذاته، جامعات مكتظة بجحافل طلابية ينوء بها أى تطوير. مثال ذلك الدعوة الرائجة فى بعض الجامعات بإجراء امتحانات إلكترونية وتصحيح إلكترونى يعتمد على أسئلة اختزالية بوضع علامة صح أو خطأ أو اختيار رمز صحيح من بين عدة إجابات. وجه الارتباك والتشوش هنا أن جامعة الخُمسة ملايين طالب مثل جامعة الإسكندرية لم تفرق بين أسلوب تقييم طلاب العلوم التطبيقية والبحتة فى كليات الهندسة أو الصيدلة أو العلوم والذى قد يصلح معه هذا النمط من الأسئلة الاختزالية، وبين أسلوب تقييم طلاب يدرسون القانون أو الاقتصاد أو العلوم السياسية أو الآداب الذين يتطلب تقييمهم قياس قدراتهم على التحليل وعرض الأفكار وإجراء المقاربات والمقارنات، فهذه قدرات لا يتم قياسها ولا يكتمل تقييم الطلاب فيها بأسئلة اختزالية مثل صح أو خطأ أو باختيار رمز صحيح من عدة رموز. من هنا أهمية وجدوى التركيز على إنشاء جامعات تضم كليات محدودة العدد متجانسة التخصصات. وأن تتحوّل جامعاتنا الحالية المكتظة إلى جامعات متخصصة فتكون هناك مثلا جامعة للعلوم الطبية، وأخرى للعلوم الإدارية والمالية، وثالثة للعلوم القانونية والاقتصادية، ورابعة للآداب والفنون. سيتيح هذا تحقيق الإصلاح والتطوير الأكثر ملاءمة لكل جامعة متخصصة، وبما يعكس طبيعتها وبرامجها وأعداد الطلاب فيها، وسيتيح هذا أيضا وجود قيادات أكاديمية أكثر تفرغاً وتخصصا وفهما لمشكلات كل جامعة، وخصوصية الدراسة فيها. فى النهاية لست أدعى فيما أراه الصواب المطلق، فلا أحد يحتكر الحقيقة. المهم أن تتسع صدورنا وعقولنا جميعا لكل الأفكار والاجتهادات مادامت غايتها مصلحة الوطن وصالح التعليم. وهل بغير التعليم نطمئن على مستقبل الأجيال المقبلة؟ لمزيد من مقالات د.سليمان عبد المنعم