ربما لا نختلف أن هناك عقلا جمعيا مصريا يميز المصريين عن غيرهم من الشعوب، فالمصريون لهم طريقتهم فى إدراك الظواهر والأشياء والحوادث والعلاقات، ولهم طريقتهم فى التعامل معها. وليست ثمة مشكلة فى أن يكون لشعب من الشعوب عقل جمعي، لكن المشكلة الحقيقية تكمن فى أن العقل المصرى الجمعى لا يزال يعمل فى حدود آليات تفكير قديمة ومتوارثة داخل مخزون عقلى ونفسى متراكم عبر قرون. وتنتج هذه الآليات الأفكار نفسها فى كل عصر، حتى وإن ارتدت ثوبا جديدا، فكتلة المعتقدات الكلية واحدة ولكن الثياب جديدة. ولا تزال طرق التفكير وآلياته المستمدة من خبرات المجتمع التاريخية وتجاربه تنتج المعتقدات نفسها والمواقف السلوكية المشتركة، وكأن هناك نفسا مشتركة أو روحا واحدة تعمل بطريقة لا شعورية كقوة للتوحيد الإدراكى داخل المجتمع المصرى تدفعه للتصرف بطريقة واحدة تجاه التحديات الكبري، وأيضا فى المواقف الطارئة، بل وفى الحياة اليومية نفسها. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه روح القطيع، لكن من الضرورى أن نؤكد أن روح القطيع أو العقل الجمعي، ليست صفة مميزة للشعب المصرى دون غيره من الشعوب، بل روح القطيع ظاهرة تحكم كل الشعوب، ولكل شعب عقله الجمعي. لكن صفات العقل الجمعى تختلف بين شعب وآخر، وحضارة وأخري، وهذا يجعل شعبا من الشعوب يسير فى طريق التقدم، بينما شعب آخر يقبع فى التاريخ يكرر ذاته ويعيد إنتاج نفسه. وإذا أردت أن تعمل على التغيير لابد أن تعمل على هذا العقل الجمعى تشخيصا وعلاجا، ولابد أن تطرح سمات العقل الجمعى المصرى للنقاش والتدقيق الجماعى والمقارنة مع العقول الجمعية للشعوب الأخري, وذلك حتى نعرف أنفسنا ونشخص أمراض تفكيرنا. والتشخيص لابد أن يسبق بداهة- العلاج المعرفى الذى نسعى إليه. ويأتى إصلاح العقل الجمعى والآليات الحاكمة لطريقته فى التفكير ضروريا لإعادة بناء الإنسان المصري, لأن العقل الجمعى محكوم دون وعى بمخيال اجتماعى وقبة حديدية أيديولوجية تعمل فيها رؤية العالم Worldview التى تتضمن كل التصورات والمفاهيم التى تشكل الأساس النظرى للفهم والتفكير والفعل؛ لأن التصورات والمفاهيم هى شرط أولى قَبْلى بلغة الابستمولوجية أو نظرية المعرفة، وأى تطوير للعقل الجمعى المصرى سيفشل فشلا ذريعا إذا لم تكن التصورات والمفاهيم الكلية منضبطة فى عقول الناس، إنها بمثابة النظارة التى تلون كل ظاهرة بلونها تبعا للون العدسات، فالتصورات والمفاهيم الكلية الأولى تلون كل ما يتلوها بلونها الخاص، فهى بمثابة العدسات التى ينظر منها المرء، فإذا كانت حمراء فسيرى كل شيء أحمر، وإذا كانت صفراء فسيرى كل شيء أصفر، وإذا كانت سوداء فسيرى كل شيء أسود! وهكذا. إن رؤية العالم الحاكمة للعقل الجمعى هى التى تشكل كود التفكير، وتضع المسارات والمحددات التى فى ضوئها يتشكل الفعل الحضارى وطرق التفاعل مع الظواهر والأحداث وتحديات المكان والزمان. وربما يكون مجديا توضيح ذلك للقارئ الكريم بما سبق تأكيده فى كتاب نحو تأسيس عصر دينى جديد، وفيه تم إيضاح أن رؤية العالم, ولا يعنينى هنا إن كنت متفقا أو مختلفا مع إمانويل كانط أو وليلهام دلتاى أو غيرهما, أقول رؤية العالم: هى الإطار العام الذى نفهم به كل ما يحيط بنا : الكون، الحياة، الناس، مستويات الوجود، والثقافات العالمية، بل هى الإطار الذى نفهم به أنفسنا أيضاً؛ لأن رؤية العالم، هى المجموعة الأساسية من التصورات الافتراضية عن العالم وتتضمن فى داخلها كتلة المعتقدات الكلية التى يحيا بها الإنسان؛ وفى ضوئها يضع الوعى الجمعى للناس علاقاتهم مع العالم، ونجد لها انعكاسات واضحة على الحياة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. وعلى هذا فإن وظيفة الرؤية هى وظيفة معرفية تعمل عملها فى العقل الجمعي، وهى نقطة جوهرية فى التغيير والتحول نحو الحداثة الحقيقية والتنمية الشاملة, وما الفرق بين عوالم الرجعية والظلام والتخلف وعوالم التقدم والأنوار والحداثة, إلا فرق بين عقل جمعى متجمد محكوم برؤية سحرية لاهوتية للعالم وعقل جمعى ديناميكى محكوم برؤية عقلانية علمية للعالم. والتحول من العقل الجمعى المتجمد عبر العصور إلى العقل الجمعى الديناميكي، لا يمكن أن يتم إلا عبر عمليات حفر معرفى وتفكيك عناصر رؤية العالم بكل جوانبها العقائدية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والوجدانية. ومن ثم نقل هذا العقل الجمعى من عقل قبل الوعى أو ما وراءه، إلى عقل تحت مظلة الوعى وإدراكه. إن العقل الجمعى هو العقل اللاوعي، وتقوم عمليات الحفر المعرفى والتفكيك بنقله من اللاوعى إلى الوعي، ويصبح محل مكاشفة ونقد. ولا يمكن هذا بدون إدراك ضرورة تطويره وتحويله من عقل ساكن جامد قابع فى اللاوعى الجمعى يكرر نفسه فى رتابة لامتناهية عبر العصور، إلى عقل قابل للتطوير المستمر ويتقدم باطراد من جراء الوعى الذاتى والتدخل الإرادى المستمر ومشاركة العقول الحضارية الأخري. وهنا يمكن أن يتحول العقل المصرى الجمعى من عقل معط مسبقاً بشكل جبرى إلى عقل مصنوع اختيارا. لمزيد من مقالات د. محمد عثمان الخشت