الرءوس الباردة هى تلك الرءوس التى يتحلى بها أشخاص قادرون على التحكم فى انفعالاتهم أثناء الأزمات، وهذا التحكم فى الانفعالات يعد شرطا من شروط التفكير العقلانى الرشيد الذى يسمح بتقييم الأزمات تقييما موضوعيا شاملا وبالخروج بأفضل الحلول الممكنة لمختلف الأطراف. الآن ومنطقة الشرق الأوسط تندفع بسرعة جنونية نحو صدام كارثى بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل من جهة وإيران وحلفائها من جهة أخرى، فإننا نحتاج بشدة إلى أصحاب الرءوس الباردة ليوقفوا هذا الاندفاع، نحتاج إليهم ليجنبوا المنطقة ويلات حرب تأخذها عقودا طويلة أخرى إلى الخلف. إن احتمال الصدام قائم سواء عن طريق التعمد أو نتيجة خطأ فى الحسابات، فمن يضع إصبعه على الزناد لا يضمن ألا تخرج طلقة من سلاحه. ولدينا نقطة ممتازة للبدء منها وفرملة الصدام الأمريكى / الإيرانى المحتمل، هذه النقطة تكمن فى التناقض الشديد بين المعلومات التى يقول جهاز الاستخبارات الأمريكية إنها متوافرة لديه، والمعلومات التى أدلى بها أحد أكبر القادة العسكريين فى التحالف الدولى ضد داعش فى العراق. تقول معلومات الاستخبارات الأمريكية إن هناك مؤشرات على تزايد التهديدات الإيرانية فى المنطقة، وهذه المؤشرات هى التى أدت إلى إرسال حاملة الطائرات الأمريكية أبراهام لينكولن للمنطقة، كما أدت إلى مطالبة الولاياتالمتحدة موظفيها الذين لا ضرورة لوجودهم فى العراق بمغادرتها. أما المعلومات التى أدلى بها الچنرال البريطانى كريستوفر چيكا، نائب قائد عملية العزم الصلب، فى إحاطة قدمها لوزارة الدفاع الأمريكية عبر مؤتمر إلكترونى من بغداد فقد ورد فيها ما نصه: «لا يوجد أى تزايد للمخاطر من قِبَل القوات المدعومة إيرانيا فى العراق وسوريا، نحن على دراية بشأنهم ونتابعهم إلى جانب طيف واسع من الآخرين». هل هذا التناقض فى المعلومات والتصريحات يذكرنا بأى شيء ؟ إنه يكاد يكون صورة طبق الأصل من الجدل الذى دار بين الولاياتالمتحدةوبريطانيا من جانب ولجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل فى العراق من جانب آخر قبيل العدوان على العراق فى عام 2003. وقف وزير الخارجية الأمريكية كولن باول فى فبراير 2002 ليدافع عن التقرير الذى رفعته بلاده إلى مجلس الأمن، والذى تضمن جزما امتلاك العراق أسلحة دمار شامل بناء على معلومات استخباراتية موثوقة. من جانبه شكك هانز بليكس رئيس لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل فى صحة المعلومات التى تمتلكها المخابرات الأمريكية وأيضا البريطانية، وطلب فى فبراير 2003 إمهال فرق التفتيش بعض الوقت لإكمال مهامها، لكن الولاياتالمتحدةوبريطانيا رفضتا الانتظار وأعلنتا الحرب على العراق ومن دون قرار من مجلس الأمن. هكذا وقعت الواقعة، ثم إذا بكولن باول يعلن بعد ذلك بأن دفاعه عن تقرير بلاده حول أسلحة الدمار الشامل الوهمية لدى العراق كان وصمة عار فى مسيرته السياسية، وإذا بهانز بليكس يشهد أمام لجنة التحقيق البريطانية عن دور بريطانيا فى غزو العراق بقوله: لقد تم جر بريطانيا للمشاركة فى حرب لا يمكن الدفاع عنها، فهل نحن ننتظر أن يعيد التاريخ نفسه وتندلع حرب أمريكية - إيرانية ثم يعلن چون بولتون مستشار الرئيس الأمريكى للأمن القومى عن أن الحرب كانت وصمة عار فى مسيرته السياسية؟. لا، فالواقع أنه يوجد فارق كبير بين كولن باول وچون بولتون، ففى حالة باول فإن احتمال انخداعه بالمعلومات المضللة للمخابرات الأمريكية قائم، أما فى حالة بولتون فلا شيء يعبر عن عدائه العميق لإيران من ذلك الوصف الذى ورد بشأنه فى تقرير مجموعة الأزمات الدولية فى 14 مايو الحالى، إذ وصف التقرير بولتون بأنه يبدو فى الظاهر كما لو أنه أراد الحرب مع إيران منذ أن كان يرتدى السروال القصير! وهذا يعنى أن ضرب إيران بالنسبة له هدف تاريخى لا يحتاج إلى تبرير. إن استهداف الناقلات الإماراتية والسعودية أمام ميناء الفجيرة الإماراتى عمل خطير، وخطير أيضا استهداف الحوثيين محطتّى ضخ النفط فى الدوامى وعفيف بالسعودية، وكلا العملين يهددان أمن الخليج العربى وأمن الملاحة الدولية وتجارة النفط عبر هذا الشريان المائى الحيوى. نفت إيران ضلوعها فى ضرب الناقلات، لكن من الوارد أن يكون لها يد فى ذلك وهى تخوض معركة بقاء بالمعنى الحرفى للكلمة، ووحده التحقيق الدولى الشفاف هو الكفيل بتحديد الفاعل. وتفاخر الحوثيون بضرب محطتّى ضخ النفط بل وتبجحوا فتوعدوا بالتصعيد وصولا للتريض فى شوارع أبو ظبى والرياض، تحملوا وحدهم مسئولية هذه الهجمات ونفوها عن إيران، لكن من الوارد أن يكون لإيران دور فى تحريك الحوثيين، هنا أيضا التحقيق الدولى الشفاف هو الآلية التى تسمح بتحديد مسئوليات جميع الأطراف. خطورة هذه الأفعال لا أحد ينكرها إذن، وهى تدخل فى سياق سياسة الفعل ورد الفعل ما بين الولاياتالمتحدةوإيران، وهى التى تدعونا لاستدعاء ذوى الرءوس الباردة لقول كلمتهم ووقف الاندفاع نحو صدام مروع بين الطرفين أو بين وكلائهما على أرضنا وبتمويلنا ودماء أبنائنا. فى مقال الأسبوع المقبل إن شاء الله سوف أعرض لبعض اقتراحات تلك الرءوس الباردة، اقتراح ورد من مجموعة الأزمات الدولية التى أشرت إليها، وهى تضع تصورها لبدء المعالجة الرشيدة للأزمة، واقتراح مشترك ورد من المثقف السعودى عبد العزيز صقر والدبلوماسى الإيرانى حسين موسويان، ولهذه الشراكة الفكرية دلالتها المهمة، وقانا الله ووقى بلادنا شر أصحاب الرءوس الحامية. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد