اليوم، الأربعاء، العاشر من رمضان، كل عام والأمة كلها بخير.. فكم منا من لم يشاهد مسلسلا أو مسلسلين، أو برنامجا أو برنامجين من برامج النميمة والتقطيع فى خلق الله وهلهلة الهدوم تحت الأضواء الساطعة؟ أغلب الظن أن الكثيرين لم يشاهدوا.. لكن بالتأكيد فإن كثيرين غيرهم كزّوا على أسنانهم، وشدوا حبال الصبر عندهم على آخرها، فجلسوا وشاهدوا. ما يعنينا هنا ليس هؤلاء الصابرين المحتسبين الذين شاهدوا، وإنما الفريق الآخر، فريق العازفين ( من العزوف أى الامتناع وليس العزف أى الموسيقي).. لماذا لم تتابعوا المسلسلات يا حلوين؟ طبعا لكل واحد من الممتنعين حجته وظروفه ومنطقه.. فهل يجوز لنا نحن أيضا (بحسباننا من الذين قرروا العزوف فلم يندموا) أن ندلى بدلونا فى ماء المسلسلات الراكد هذا (حسب الحكمة القائلة بأن الذى على البر عوّام)؟.. ولم لا؟ دعونا نحاول، لكن فى البداية علينا أن نعرف أن الإقرار بأن ثمة ركودا من عدمه تتطلب إحصاءات وأبحاثا وآراء من المتخصصين وكفانا استمراءً لشُغل الهواة هذا وألاعيب أصحاب المصالح. الشواهد تشير إلى أن الإقبال فى رمضان هذا العام لم يكن كالإقبال فى رمضان الذى سبقه.. وعلى كل حال عندما سألنا العازفين عن أسباب عزوفهم أجاب فريق منهم بأن طغيان الإعلانات التى تتخلل المسلسل زاد على حده إلى الحد الذى كادت معه تطلع الروح من الزهق والسأم الممل، بل والغضب الذى كادت معه الأيدى تمتد لتغلق الريموت.. ولم يجد هؤلاء السائمون المساكين بُدّا من الهروب والانصراف حفاظا على سكينة العقل والنفس والروح. نعم.. هناك ما يشبه الإجماع على أن الإعلانات قد زودتها هذه المرة حتى إن أحدهم خرج كاتبا على الفيس بوك: يا ناس نحن نشاهد إعلانات مدهونة بمسلسل وليس مسلسلا به إعلانات.. كفاية.. حرام! هذا أولا، فأما ثانيا، فإن بعض الممتنعين عن المشاهدة ركب حصان خياله وتشجع وصرخ مغاضبا: ما هذه التفاهة.. وما هذا الضحك على الأذقان.. شايفينا هُبْل ولا إيه؟.. ثم برر أخونا موقفه هذا بأن المسلسلات فى أغلبها مجرد إفيهات لفظية لا فكرة فيها ولا معنى، وكأن الأستاذ السيناريست لم يكلف صنعة واكتفى بوضع الممثلين فى مواجهة بعضهم البعض وهات يا إفيهات كأننا فى مقهى بلدي.. يا ناس فين المسلسل؟ فريق ثالث (للأمانة كان أكثر رزانة وتعقلا من الفريق السابق) قال إن صانعى المسلسلات إنما باتوا يستسهلون ولم يعودوا يتعبون أنفسهم كما عرفنا فى الماضى عن أسامة أنور عكاشة أو وحيد حامد أو محفوظ عبدالرحمن. وأضاف صاحبنا هذا أنه يبدو أن كل ما يفكر فيه هؤلاء الكتاب الآن هو ما سوف يحصلون عليه من أجر.. ومن ثم فإن المسألة أصبحت مجرد سبوبة لأكل العيش. إلا أن أخانا عاد ليستدرك بأن هذا المنطق لا ينطبق على الجميع حيث إن هناك بالفعل قليلا من الكُتاب قد أتعبوا أنفسهم.. ومع ذلك فإن العملة المضروبة طردت العملة الجيدة. بعض أعضاء هذا الفريق الثالث تمطعوا فأفتوا بأن كثيرا من مجالات حياتنا باتت قائمة على الاستسهال والاستعجال فلماذا نقسو على صناع الدراما التليفزيونية، كتابا ومخرجين وممثلين؛ وحدهم فنطالبهم بالإتقان (يعنى هيّ جت على المسلسلات يا خَيّ؟). أما الفريق الرابع فقد عنَّ له أن يتفلسف، وانبرى بالقول إن الدنيا حرّ، والصيام إجهاد، فلماذا أوجع رأسى فى التنظير والتفكير المتعمق الذى لا لزوم له هذه الأيام؟ ويشرح هذا الفريق وجهة نظره بأن الأصل فى المسلسلات والبرامج والفوازير فى رمضان هو تسلية الصائمين والترويح عنهم، سواء وهم بعد صائمون أو بعد امتلاء معداتهم والبطون. ويتساءل معتنقو هذا المذهب التسلوي: ماذا تنتظر من ممتلئة معدته حد الانفجار.. هل تحسبه يشغل نفسه بعميق الأفكار.. بعد الإفطار.. يا عم قل يا باسط! وهناك فريق خامس (مثقف شويتين ورأى أن يفكر خارج الصندوق) ذهب فى القضية مذهبا مختلفا.. قال إن زمن الدراما التليفزيونية قد ولّى وفات وفى ذيله سبع لفّات، مثله فى ذلك مثل كثير من مجالات التسلية الأخري. إنه زمن موشك على الانقضاء تمهيدا للانقراض. أصحاب ذلك الفريق لم يكتفوا بهذا بل شطحوا شطحة لا مثيل لها فقالوا إن مستقبل التليفزيون كله فى الدنيا بكاملها بات فى مهب الريح وما هذا العزوف عن المسلسلات سوى إرهاصات ما قبل الرحيل الذى لا عودة منه.. يعنى إيه؟ يوضحون: إن الزمن يا عشاق التليفزيون زمن فيس بوك ويو تيوب ومقاطع فيديو وواتس آب وإنستجرام وليس زمن شاشة بيضاء (يعنى تليفزيون) ولا شاشة فضية (يعنى سينما).. ويسألونك: قل لي.. لماذا أرهق نفسي، أنا المُشاهد المستلقى على ظهرى والوسادة المريحة تحت رأسي، فأتوجه إلى التليفزيون بحثا عن مسلسل أستملحه فأتابعه.. أليس صناع المسلسلات أنفسهم أصبحوا يحطون لى أعمالهم على الموبايل الذى بين كفيّ؟ ( لأ وإيه.. من غير إعلانات مزعجة).. فلماذا الدوشة ووجع الدماغ؟ ونعود للسؤال: لماذا العزوف؟ خلاص عرفنا لماذا.. فما الحل؟ ليس أمام صانعى الدراما إلا حل من اثنين، إما أن يعودوا فيتناولوا مشكلات الناس الحقيقية بكل جدية واحترام لعقول المتلقين ويطرحوا لهم الحلول.. أو أن يوجهوا رءوس أموالهم من الآن فصاعدا إلى أعمال خفيفة سريعة (على غرار ساعة لقلبك) تناسب الموبايل وساعتها انسوا حكاية أن الدراما إحدى صانعات عقل هذه الأمة كما كانت فى الماضى القريب!. لمزيد من مقالات سمير الشحات