يبدو أن اسبانيا ستواجه خلال الأسابيع القليلة القادمة تحديات كثيرة من أجل تشكيل حكومة ائتلافية وذلك بعد أن فشل حزب العمال الاشتراكي بقيادة بيدرو سانشيز رئيس الوزراء في الفوز بالأغلبية المطلقة فى الإنتخابات التشريعية التى أجريت مؤخرا وذلك على الرغم من تحقيق الحزب نتائج جيدة أعادت الأمل للاشتراكيين فى جميع أنحاء أوروبا. فقد حصل الحزب على ما يقارب من 29% من الأصوات، (حوالى 123 مقعدا في البرلمان من أصل 350 يتألف منها مجلس النواب)، إلا أن الفارق يظل كبيرا لتحقيق الأغلبية المطلقة المحددة ب 176 مقعدا, وبالتالي فإن أمام بيدرو سانشيز مهمة صعبة تتمثل فى عقد تحالفات مع بعض الأحزاب ومنها اليسار الراديكالي المتمثل في حزب بوديموس (قادرون) الذي تمكن من كسر نظام الثنائية القطبية فى اسبانيا منذ أربع سنوات, وربما مع أحزاب أخري على صلة بالانفصاليين الكتالونيين ليتمكن من تشكيل حكومة جديدة. ومما لاشك فيه أن الإنتخابات التشريعية الأخيرة قد كشفت عن تحولات كثيرة منها على سبيل المثال تراجع شعبية حزب الشعب المحافظ بعد حصوله على نسبة 17% من الأصوات (حوالى 66 مقعدا) أي أقل ب 72 نائبا برلمانيا عن تلك التي حصل عليها في الانتخابات التشريعية السابقة عام 2016, لذلك يعد هو الخاسر الأكبر خلال هذا الاقتراع بعد أن سجل أسوأ نتيجة في تاريخه السياسي, وأرجع المحللون السبب فى هذه الهزيمة إلى لجوء الحزب إلى الخطاب المتشدد لمحاولة اجتذاب ناخبي حزب «فوكس» اليميني المتطرف, وكانت النتيجة تفضيل ناخبي اليمين إعطاء أصواتهم إلى حزب «فوكس» بعدما لم يجدوا فى خطاب الحزب الشعبي المحافظ الجديد الذي يستهويهم. الانتخابات أسفرت أيضا عن سطوع نجم حزب «فوكس» الذي أحدث دخوله لأول مرة إلى مجلس النواب بحصوله على نسبة 11% من الأصوات (حوالي 24 مقعدا), زلزالا سياسيا لكونه أول حزب يميني متطرف يستطيع أن يفوز بأكثر من مقعد واحد منذ وفاة الديكتاتور الاسبانى فرانكو عام 1975. وحزب «فوكس» الذي يعني بالعربية «الصوت»، كان هامشيا قبل ستة أشهر فقط، فلم يحصل فى الانتخابات التشريعية السابقة عام 2016 سوي على 2, % فقط من الأصوات, ورغم تبنيه خطابا مناهضا لحقوق المرأة وللمساواة بين الجنسين وللمهاجرين، فإن شعبيته زادت مؤخرا خاصة بعد تبنيه موقفا معاديا لتيار استقلال إقيلم كتالونيا, وإعتماده فى دعايته الانتخابية على شعارات مثل «وحدة البلاد» و«لا للانقسام», ويبدو أن هذه الشعارات لاقت صداها عند الناخب الأسباني. وبينما يرجح بعض الخبراء أنه لن يكون بإستطاعة رئيس الوزراء الحالي التوصل لائتلاف حكومي قبل نهاية يونيو على أقل تقدير, يري البعض الأخر أن عقبة الائتلاف الحكومي تجعل من إعادة الانتخابات مرة أخرى سيناريو واردا, فقد فشلت الأحزاب اليمينية الثلاثة مجتمعة (الشعب وسيودادانوس وفوكس) فى تحقيق غالبية تسمح لها بتشكيل ائتلاف حاكم. ولا يخفي على الكثيرين أن التحديات الاقتصادية التى واجهتها اسبانيا خلال الأشهر الماضية ألقت بظلالها على الانتخابات التشريعية وخلطت الأوراق تاركة فرص التحالف الحكومي أمام اختبار تماسك, فمن المعروف أن بيدرو سانشيز كان قد تولي رئاسة الحكومة في يونيو عام 2018 بعد حجب الثقة البرلمانية عن سلفه ماريانو راخوي، زعيم الحزب الشعبي المحافظ، ثم اضطر سانشيز ذاته إلى التوجه إلى انتخابات برلمانية مبكرة هي الرابعة خلال أربع سنوات بعد أن عجزت حكومة الأقلية البرلمانية التي كان يقودها عن كسب تأييد البرلمان لمشروع الإنفاق العام في فبراير الماضي. وقد اتسمت الشهور العشرة لحكومة سانشيز الاشتراكية بمحاولاته الدءوبة للتخفيف من معاناة المواطنين من الأزمة الإقتصادية وأيضا لإيجاد حل للأزمة الكتالونية عبر الحوار مع الأحزاب القومية الحاكمة فى ذلك الإقليم, فكان لسياساته الاجتماعية وميله إلى الإعتدال كل هذا التأييد الشعبي الواسع الذي ترجمه الفوز فى صناديق الاقتراع. وفور إعلان نتائج الانتخابات سارع رئيس الوزراء بيدرو سانشيز إلى القول بأنه سيسعى لتشكيل حكومة موالية لأوروبا وان الشرط الوحيد يتمثل في إحترام الدستور وتعزيز العدالة الاجتماعية, ولكن يبدو أن الخيارات المطروحة أمامه ليست بهذه السهولة, فمن الممكن أن يحصل سانشيز على دعم حزب «بوديموس» الذي يمثل أقصى اليسار والذي سجل تراجعا طفيفا خلال هذه الانتخابات التشريعية بعد حصوله على 42 مقعدا, ليشكلا معا إئتلافا حكوميا بدعم من الأحزاب الأخري الأكثر اعتدالا في صفوف الانفصاليين الكاتالونيين، الأمر الذى من شأنه أن يوفر له الغالبية النيابية. لكن يبقي شبح موازنة عام 2019 التى إصطف الإنفصاليين مع الحزب الشعبي وسيودادانوس (المواطنة) ضدها يلوح فى الأفق, هذا بجانب أنه كانت هناك إتهامات ب«الخيانة» لرئيس الوزراء من جانب بعض الأحزاب اليمينية جراء المحاولات التى قام بها للتحاور مع المطالبين بالإنفصال من أجل التوصل لإتفاق بشأن أزمة إنفصال إقليم كتالونيا عام 2017. ويري بعض الخبراء أنه بحصول حزب «سيودادانوس» اليميني الوسطي على 57 مقعدا فى البرلمان، فإن ذلك سيعطي فرصة لسانشيز أن يقيم تحالفا قويا يضمن معه تحقيق الأغلبية المطلقة, ولكن ذلك من شأنه أيضا أن يثير موجة من الغضب بين ناخبي الحزبين, وهي موجة تجلت مؤشراتها أثناء الحملات الإنتخابية للحزبين حينما هتف أنصار الاشتراكيين «لا إئتلاف مع ألبرت» فى إشارة إلى زعيم حزب «سيودادانوس» اليميني والذي من جهته كان دائم الإنتقاد لرئيس الوزراء سانشيز وحاول أكثر من مرة تشويه صورته بإنتقاد سعيه للتفاوض مع الإنفصاليين الكتالونيين. إذا يبدو أن وقتا ليس بالقصير سيمضي قبل أن يخرج الدخان الأبيض من البرلمان معلنا تشكيل الحكومة الجديدة, وهو ما سيغذي أجواء الغموض السياسي في أنحاء أوروبا خاصة وأن الناخب الأسباني سيكون على موعد مع إستحقاقات انتخابية محلية وإقليمية أخري بالإضافة إلى الا نتخابات الأوروبية المقررة فى 26 مايو الحالي.