دفعتنى الحيرة البالغة التى أعانيها للكتابة إليك طلبا لمشورتك فى أمرى، فأنا سيدة تعديت سن الثلاثين، ولى تجربة قاسية فى الحياة، هى السبب فى الحالة التى أعيشها الآن، حيث تعرفت وأنا فى السنة الأولى لى بكلية نظرية فى جامعة بوسط الدلتا على أستاذ كان يدرس لنا إحدى المواد النظرية، ويتجاوز فارق السن بيننا أربعين عاما، ونشأ بيننا احترام ومودة، وشيئا فشيئا تسلل حبه إلى قلبى، ولاحظت عليه الشعور نفسه، وألمح لى من بعيد بذلك، فوجدتنى أفكر فيه، وأزداد تعلقا به، فحبه لى كان خاليا من كل ما يمكن أن يفكر فيه رجل بصحبة امرأة، لكن فكرة الزواج منه كانت بالنسبة لى صعبة المنال، لفارق السن الكبيرة بيننا، وأيضا لأن أسرتى بسيطة، ولا يتناسب مستوانا مع مستوى عائلته، برغم يقينى بأن الحب لا يعرف حواجز الزمن ولا يعترف إلا بالواقع، حيث كان أستاذى يمثل بالنسبة لى كل شىء، ويكفينى أن أقول إنه بثنى حبا جميلا بلا رتوش وبلا حدود.. حبا خالصا نقيا جعلنى أتمسك به، وأقف فى وجه الجميع دفاعا عنه، ولم يشغلنى فارق السن لأننى عشت فى عقله وقلبه فترة الدراسة وما بعدها بسنوات، وتذوقت معه معنى التوافق الإنسانى النبيل الذى صادف ما كنت أصبو إليه دائما، وأسرنى بعاطفته الجياشة، وزادنى ارتباطا به ما علمته من أنه يعيش وحيدا بعد رحيل زوجته منذ عشرين عاما فى حادث مرور، ولم تكن قادرة على الإنجاب لكن حبه لها جعله لا يفكر فى الزواج بأخرى، وانشغل بعمله، وركز كل جهده فيه. وتأرجحت حياتى بين عاطفة تجيش فى قلبي، ورحلة زواج من هذا الرجل الذى ينتمى لعائلة تمتلك مقومات تجعلها قادرة على العيش الكريم، وقد قضى معظم حياته فى محراب العلم، وتخرجت على يديه قوائم من الدفعات التى تشهد له بالجدية والإخلاص، وحققت تفوقا على يديه، وحصلت على الامتياز، وصرت معيدة بكليتى، ثم أتممت دراساتى العليا، وصرت إحدى رائدات المادة التى أدين بالوفاء فيها له. وكان لابد أن تنتهى علاقتنا بالزواج، ولم ألق بالا لموقف أسرتى البسيطة، فوالدى يعمل فى تجارة إطارات السيارات ولديه ورشة ميكانيكا، وأمى ربة منزل، وبذلا محاولات مضنية لإثنائى عما اعتزمته، وانضمت إليهما شقيقتى الكبرى، وشقيقى الأصغر، وقابلونى جميعا بعاصفة من الرفض. وتنامت إلى خالى قصة حبى لهذا الرجل، فعرض علىّ أن يلتقى به لكى يقرر ما إذا كان ينضم إليهم، أو يوافق، ولو على مضض، وعرضت الأمر على حبيبى، فرحب بلقائه، واتفقنا أن يكون اللقاء بمكتبه بعد انتهاء اليوم الدراسي، وفى الموعد المحدد التقيا وتعارفا، ورأى خالى أنها تجربة محفوفة بمخاطر جمة، وأننى وحدى التى باستطاعتى أن أقرر هل أتزوجه أم لا، فالأمر يتعلق بى، سمعت كلامه كرأى أخير، وأعلنت موافقتى على الارتباط بأستاذى، وأقمنا حفلا عائليا بسيطا فى معناه بهيجا فى فحواه، وانتقلت إلى بيتى الجديد، وأحسست أننى حققت إلى حد بعيد أحلامى بهذا الارتباط، ودار بيننا حديث عن المولود القادم الذى طالما حلم به زوجى كثيرا، وقال لى إنه سيكتب كل أملاكه باسم ابننا المنتظر فور خروجه إلى الحياة. ومر عامان كاملان، ترددت فيهما على الأطباء، وأجريت لى تحاليل كثيرة، وأنا غارقة فى بحر الأحلام مع الرجل الذى تفتحت عيناى على الدنيا معه، ولم أر غيره، ولم يشغلنى شىء سواه، وفجأة أفقت على الحقيقة المفزعة، وهى أن زوجى غير قادر على الإنجاب، ومن ثمّ لن يتحقق حلمى فى الأمومة، وهو الغاية المهمة التى كنت أسعى إليها، لكنه لم يبح لى بسره، وتركنى ألاطم أمواج الحياة وحدى، ورحت أستعيد شريط الذكريات، وإصرارى على الزواج منه برغم معارضة كل من حولى، حتى خالى الذى تعاطف معى، وترك لى حرية الاختيار على أن أتحمل تبعاته، فتجاهلت كل الآراء المعارضة، طمعا فى وضع اجتماعى أردته لنفسى من خلال زواج محفوف بالمخاطر. إننى أعيش الآن حالة صمت دائمة، وتنهمر دموعى كل مساء، ولا أعرف كيف ستمضى حياتى، فالحق أن زوجى لم يسئ معاملتى، ولم يبدر منه شىء يضايقنى، لكنى أراه فى واد وأنا فى واد آخر، وقد وجدت يقينا أن السعادة التى كنت أبحث عنها بعيدة عنى تماما، ولم يعد هناك أمل فى الحياة.. إننى أفكر أحيانا فى طلب الطلاق، ثم أتراجع عنه خوفا من المجهول، وفى أحيان أخرى أقول فى نفسى: لا بديل عن الانفصال والتطلع إلى حياة جديدة وفقا للمعايير المتعارف عليها فى الزواج من حيث التكافؤ فى كل شىء، والتى سبق أن ضربت عرض الحائط بها سعيا إلى زواج أصررت عليه، دون أن أدرك أبعاده، وانسقت إليه، وأنا على عينى غشاوة، فلم أر الأمور جيدا.. إننى أنتظر بفارغ الصبر رأيك فى موقفى وحالى، ونصيحتك لى للخروج من براثن الحصار الذى فرضته على نفسى بإرادتى، ولك التحية والسلام. ولكاتبة هذه الرسالة أقول: أى حب هذا الذى كنت تسعين إليه مع رجل عمره ثلاثة أمثال عمرك؟، فنظرتك إليه لم تكن نظرة عاطفية ولا عقلانية، وإنما كانت نظرة استغلالية، بدافع الارتقاء فى السلم الجامعى بسرعة، ونقلك إلى مستوى أعلى ماديا واجتماعيا بما يملكه من أموال، وربما الطمع فيه باعتبار أنه لم ينجب، وليس لديه أبناء يرثونه، ولذلك سعيت للارتباط به، غير راغبة فى الحياة والكفاح والنضال مع شاب يقاربك فى العمر، فمن الممكن للزوجة الشابة أن تشبع رغباتها المادية مع زوجها، لكنها لا تشبع رغباتها العاطفية والنفسية، ولا يتحقق لها التوافق والانسجام مع الطرف الآخر. والزواج الناجح لابد أن تتوافر فيه الكفاءة، بمعنى المساواة والمماثلة فى المستويات العلمية والخلقية والاجتماعية، وكذلك فى السن، مما يؤدى إلى دوام الألفة والانسجام والود والتراحم، فيكون الزواج آية من آيات الله القائل: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (الروم 21). ويجب عند تقدير الكفاءة فى الزواج مراعاة اختلاف البيئات والأوضاع والأزمان، مع تأكيد المبدأ الرئيسى بألا يقع ضرر على أحد الطرفين بالآخر، لقول رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) «لا ضرر ولا ضرار»، لأن الإسلام يحرم الضرر أياً كان القائم به وفى أى علاقة إنسانية، فما بالنا بالزواج الذى يعتبر من أقدس العلاقات الإنسانية!. ومن الضرورى أن يكون الرجل مماثلا للمرأة أو متقارباً معها، فى الصفات العلمية والاجتماعية والعقلية والخلقية، وبالتالى فإن له أن يتزوج بمن هى أقل منه فى علمه وأحواله الاجتماعية وعمره، وجرى العرف بين الناس أن الزوجة صاحبة المنزلة الرفيعة هى التى تعيّر إذا تزوجت بمن هو غير كفء لها، أما الزوج فلا يعيّر إذا كانت زوجته دونه فى المنزلة العقلية والعلمية والاجتماعية، لأنه يرفع شأنها لانتسابها إليه كزوجة، أما هى فإن المجتمع قد يعيّرها به لأنه الأقل شأناً وكفاءة، وبالتالى فهو يخفض من قدرها ومكانتها ومكانة أهلها. إن التكافؤ أمر درج عليه الناس من قديم الزمان، بدليل أنهم كانوا يختارون شريكاً أو شريكة فى الحياة الزوجية من بين كثر موجودين فى المجتمع، بشرط أن يكون الاختيار نفسه فى الغالب للأصلح والأنسب لقيام الحياة الزوجية بمعناها الصحيح المستقر، وكان التقارب فى السن والصحة العامة من الأمور الأساسية، حتى يرى كل منهما فى شريك حياته ما يحب أن يراه ويستغنى به عن الآخرين، سواء فيما يتصل بالعلاقة الزوجية وما يرتبط بها، من أن يكون كل منهما وسيلة لعفة شريك حياته عن الحرام، ولهذا كان كل منهما يبحث قدر الإمكان عن الخالى من العيوب الظاهرة، أما العيوب الباطنة فلا مجال لمعرفتها إلا بعد الزواج. وقد يؤدى غياب التكافؤ إلى الطلاق أو العيش فى تعاسة، وهو ما تعانينه الآن، ولكنك للأسف لم تدركى ذلك إلا بعد أن ارتبطت بأستاذك، وتأكدت من أنك لن تنالى من أملاكه شيئا، إذ صوّر لك خيالك أنه سيكتب جزءا من ممتلكاته باسمك، فإذا بالواقع الأليم الذى لم يدر بخلدك، وبالطبع ليس لديك سبب مباشر للانفصال عنه سوى حجة عدم الإنجاب، ولا بديل عن حل مشكلتك سوى الرضا بالأمر الواقع، والتخلى عن أطماعك القديمة فى المال، ولا تنسى أنك اخترتِهِ بإرادتك، ولم يجبرك أحد على قبوله، وعليك أن تعيشى الواقع بعيدا عن «بحر الأحلام» الذى أغرقت نفسك فيه.. أعيدى حساباتك واستعينى بالله، وسوف يهيئ لك من أمرك رشدا، وهو وحده المستعان.