أى عظيم كان محمد ذلك الذى ارتعد أمامه رجل فقال له: هون عليك يارجل إنما أنا أبن امرأة كانت تأكل القديد بمكة. أى عظيم كان محمد ذلك الذى يقف بين الناس قائلاً: من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهرى فليقتص منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضى فليقتص منه، ومن أخذت له مالا فهذا مالى فليأخذ منه. أى عظيم ذلك الذى يسرع إلى سيدة عجوز زارته فى المدينة فخف عليه السلام للقائها فى حفاوة بالغة وأحضر بردته وبسطها على الارض لتجلس عليها العجوز وبعد انصرافها سألته عائشة عن سر حفاوته بها، فقال: إنها كانت تزورنا أيام خديجة. أى عظيم كان محمد (صلى الله عليه وسلم) الذى لم تمنعه مكانته من أن يخصف نعله ويرقع ثوبه ويعود المرضى ويزور القبور، وأن يأكل ما وجد وكان أكثر طعامه التمر والماء. كانت عظمة محمد أنه عاش بين الناس كواحد منهم، باع واشترى، وأجر وأستأجز، وشارك ووكل وتوكل، ووهب ووهب له، واستعار وضمن وشفع وشفع إليه، وسابق وصارع، وتزوج وطلق، وداوى وتداوى، ورقى واسترقى، وحارب وانتصر وانهزم، وكان يصوم ويفطر، ويدعو الله «يا مثبت القلوب ثبت قلبى على دينك». بهذه الاخلاق السامية وصل الرسول إلى القلوب والعقول. وكيف لا وهو القائل «العقل أصل دينى» وأول ماخلق الله العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له وعزتى وجلالى ماخلقت أكرم على منك، بك آخذ وبك أعطى، وبك أثيب وبك أعاقب. ونحن إذا ماحكمنا على العظمة كما يقول المؤرخ الامريكى ويل ديورانت بما كان للعظيم من أثر فى الناس قلنا إن محمداً من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخد على نفسه أن يرفع المستوى الروحى والأخلاقى لشعب ألقت به فى دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح فى تحقيق هذا الفرق نجاحاً لم يدانه فيه أى مصلح آخر فى التاريخ كله. وقل أن نجد إنساناً غيره حقق كل ما كان يحلم به. وقد وصل الى ماكان يبتغيه عن طريق الدين، ولم يكن ذلك لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى، بل لأنه لم يكن ثمة غير قوة الدين تدفع العرب فى أيامه الى سلوك ذلك الطريق الذى سلكوه، فقد لجأ إلى خيالهم، وإلى مخاوفهم وآمالهم وخاطبهم على قدر عقولهم وكانت بلاد العرب لما بدأ الدعوة صحراء جرداء تسكنها قبائل من عبدة الأوثان، قليل عددها متفرقة كل منها، وكانت عند وفاته أمة موحدة متماسكة، وقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق المسيحية ودين بلاده القديم، ديناً سهلاً واضحاً قوياً وصرحا خلقياً قوامه البسالة والعزة القومية، واستطاع فى جيل واحد أن ينتصر فى مائة معركة وفى قرن واحد أن ينشئ «دولة عظيمة» وأن يبقى الى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم فى نصف العالم. إنسانية الرسول وعقله وسياسته الحكيمة كانت من دلائل عظمته التى جعلت الاسلام يقود الحضارة الانسانية مدة طويلة من الزمن وعندما غاب هذا العقل وتلك الانسانية والحكمة انهارت الأمة، فراحت تأخد من الدين القشور وتقف موقف العداء من العقل والعلم فافتقدت الرحمة والعدل والمساواة التى هى الفروض الاساسية للدين. وبها يصبح للعبادة والخشوع لله معنى. ترك المسلمون فروض العقل وراحوا يمارسون طقوس البدن، يمارسونها وهم يظلمون الناس ويأكلون أموالهم بالباطل. فغاب العقل والعلم والحكمة وحلت الخرافة. ونحن فى هذا العدد نحتفى بصاحب رسالة الايمان والعقل والحكمة والعدل والمساواة بين الناس. ذلك العظيم الذى استطاع أن يقود قبائل بدائية متخلفة ليصنع أمة استطاعت أن تهزم أكبر امبراطوريتين فى ذلك الوقت. «الفرس والروم»، بالعلم، والعمل، والعقل، والإيمان. وهذه هى شروط الحضارة والتقدم كما وضعها رسول هذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم.