من الكتب التي قرأتها وأعيد قراءتها بين الحين والحين، كتب المفكر الإسلامي الكبير خالد محمد خالد. ولنتوقف عند مشهد من المشاهد التي أوردها في كتابه (إنسانيات محمد).. إنه يخاطب أعظم رسل السماء بقوله: "يا من جئت إلي الحياة فأعطيت ولم تأخذ.. يا من قدّست الوجود كله، ورعيت قضية الإنسان.. يا من زكّيت سيادة العقل، ونهنهت غريزة القطيع.. يا من هيّأك تفوقك لتكون (سيدا) فوق الجميع فعشت واحدا بين الجميع.. يا من أعطيت القدرة وضربت المثل، وعبّدت الطريق يا أيها الرسول، والأب والأخ والصديق.. إليك أهدي هذه الكلمات في حياء من يعلم أنه يجاوز قدره بهذا الإهداء". ويقول خالد محمد خالد بعد هذه المقدمة المضيئة بأعذب الكلمات: لو لم يكن محمد رسولا، لكان إنسانا في مستوي الرسول.. ولو لم يتلق الأمر من ربه: "ياأيها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك" لتلقاه من ذات نفسه: يا أيها الرسول بلِّغ ما يعتمل في ضميرك.. ذلك أن محمداً الإنسان.. جاوز نضجه وارتقاؤه كل تخوم الذات وحدودها، ولم يكن ثمة سبيل لوقف انتشار هذا النضج وهذا الارتقاء خارج الذات.. وخارج البيئة.. بل خارج الزمان والمكان. إن محمداً الإنسان شيء باهر، فإذا التقي بمحمد الرسول، فإن عظمته آنئذ تتجاوز كل حدود الثناء. ويعدِّد عظمة محمد الإنسان.. ونقف عند بعض النماذج شديدة الإبهار في شخصية النبي الخاتم: • نري الإنسان الذي يكتب لملوك الأرض طالباً إليهم أن ينبذوا غرورهم الباطل، ثم يصغي في حفاوة ورضا لأعرابي حافي القدمين يقول في جهالة: اعدل يا محمد فليس المال مالك ولا مال أبيك!! نري العابد الأواب الذي يقف في صلاته يتلو سورة طويلة من القرآن في انتشاء وغبطة لا يقايض عليها بملء الأرض تيجاناً وذهباً، ثم لا يلبث أن يسمع بكاء طفل رضيع كانت أمه تصلي خلف الرسول صلي الله عليه وسلم في المسجد.. فيضحي بغبطته الكبري وحبوره الجيّاش وينهي صلاته علي عجل رحمة بالرضيع الذي يبكي وينادي أمه ببكائه!! - نري الإنسان الذي وقف أمامه.. صاغرين.. جميع الذين شنوا عليه الحرب والبغضاء، ومثلوا بجثمان عمه الشهيد (حمزة).. ومضغوا كبده في وحشية ضارية فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء!! نري الإنسان الذي يجمع الحطب لأصحابه في بعض أسفارهم ليستوقدوه نارا تنضج لهم الطعام. والذي يرتجف حين يبصر دابة تحمل فوق ظهرها أكثر مما تطيق!! والذي يحلب شاته.. ويخيط ثوبه.. ويخصف نعله! و..، أكثر المواقف التي يبرزها الكاتب لنعرف كم كان محمد الإنسان عظيماً.. وكيف كان بالناس رحيماً.. فمحمد محب ودود أطاع الله كثيراً لأنه أحبه كثيراً. ويري الناس كثيراً، لأنه يحبهم كثيراً.. وأقبل علي الفضائل والواجبات جذلان مبتهجا، لأنه أحبها وأحب من كل قلبه الطهر والنقاء. وهذا هو سر تفوق عظمته.. أنه أحب عظائم الأمور، ومارسها في شغف عظيم، ممارسة محب مفطور لا ممارسة مكلف مأمور، وراء كل سلوكه، ومواقفه وحياته.. نجد الحب. والحديث عن عظمة الرسول لا تكتبها مجلدات، والرسالة المحمدية للناس كافة فهو القائل: »بعثت إلي الناس كافة.. فإن لم يستجيبوا لي فإلي العرب.. فإن لم يستجيبوا لي فإلي قريش.. فإن لم يستجيبوا لي فإلي بني هاشم.. فإن لم يستجيبوا لي فإلي وحدي». ويعدد مآثر الرسول، ويضرب أمثلة كثيرة عن حبه لكل المخلوقات، ويري أن محمداً في سموه.. يقف محمد الإنسان والرسول كما هو في كل الخصال أستاذ البشرية العظيم: حين انتهي عمله علي الأرض، وأدي الواجب الذي اختير لأدائه، وأكمل الله له دينه وأتم عليه نعمته.. مرِض مرَض الموت.. وإذا هو راقد في فراشه، وحوله بعض أهله، أخذته نشوة حسية فأطلق عينيه نحو السماء في حبور عظيم، وأخذ يقول: .. بل الرفيق الأعلي .. بل الرفيق الأعي وفاضت روحه صاعدة إلي الرفيق الأعلي.. هاتان الكلمتان اللتان ختم بهما عليه السلام كلامه في الدنيا.. هما قصة حياته.. ويقول خالد محمد خالد: وهما ليستا كلمتين فحسب، بل الحقيقة الكبري التي فتح (محمد) عليها عينيه طفلا، وأغمضهما لحظة الموت وهو يلهج بها ويرددها في ولاء منقطع النظير.. لقد عاش حياته كلها مع الرفيق الأعلي.. عاش مع الله.. وعاش مع المستويات الرفيعة التي حلق عندها رسل الله.. وعاش مع القيم العليا التي آثرها علي مناعم الدنيا وجاهها وغرورها.. ويصف شخصية الرسول الكريم بقوله: "والسمو في حياته يزدهر ويترعرع كما تزدهر البذور وتنمو في مزرعة طيبة التربة، طيبة المناخ، ريانة الماء. والسمو عنده عليه السلام.. ليس جداً صارماً، ولا تقوي عابسة، ولا وقاراً مكفهراً. إنما هو الأناقة.. أناقة النفس.. وأناقة الجسم، وأناقة السلوك.. أناقة الكلمة التي ينطقها.. وأناقة الحركة التي يأتيها، وأناقة النوايا التي يضمرها.. وبعبارة واحدة.. أناقة حياته كلها.. إنه يفرح بكل يوم جديد، لأنه سيزداد فيه سموا وتساميا إلي الرفيق الأعلي.. وإنه ليدعو ربه دوما بهذا الدعاء: » اللهم آت نفسي تقواها.. وزكها أنت خير من زكاها» فتزكية النفس هي مسألته الكبري التي يعيش لها وهو لا يزكيها بأي من تلك الوسائل التي تقوم علي الانطواء، بل يزكيها وسط المعمعة.. •••• و..ما أعظم مآثر النبي الخاتم، وما أعظم هذه الشخصية الآسرة، والتي ظلت وستظل نور هداية للبشرية في كل العصور، وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.. فهذا اليتيم استطاع أن يغير تاريخ البشرية كلها، ولم يمض علي رحيله سنوات، إلا كان الإسلام ينتشر في كل قارات الدنيا مبشراً بكل القيم والأخلاق والعقائد السليمة، التي تعيد للبشرية كل ما يعينها علي البقاء في ظل حياة يرفرف عليها الأمن والأمان، وتفضي إلي عالم الخلود.