كلما أهل هلال رمضان فذاكرتى تلهث إلى الوراء عشرات الاعوام لأجدنى فى حضرة معلم ابى فضيلة الشيخ إبراهيم الغرباوى فى بيته الساحر من فرط اتساعه وروعة طرازه المملوكى الواقع فى باب الوزير الذى تفصله عن قلعة محمد على خطوات. وكان للرجل فى حياتنا دور الجد فقد اختاره ابى معلما له وكان لابد من زيارته كلما نزلنا من مدينتنا الإسكندرية للقاهرة. وأول ما تحمله ذاكرتى عن الرجل انه كان عضو هيئة كبار العلماء، وكان ايضا اول من رفض إصدار تقرير باعتماد فاروق ملك مصر خليفة للمسلمين، وهو من قال لمن طالبه بالتوقيع على مثل هذا الامر: يمكن لنا ان نصلى طلبا للهداية لهذا الملك الشاب، فلم تسقط الخلافة فى الاستانة إلا بسبب فساد من تربعوا على العرش ولم يأت لمصر ادنى خير منذ دخول الإنكشارية مع السلطان سليم غزوا لمصر. وأذكر صباح اليوم التالى لثورة 1952 ان كنا كأسرة مدعويين على الغداء فى منزله. وكنت اكثر اخوتى سؤالا له، فقلت: ماذا تتوقع لحركة الضباط ؟ اجابني: الامر المؤكد انهم ليسوا على فساد الملك والحاشية. قال ذلك بعد أن روى ابنه قصة الأمير الذى دعا طلبة كلية الزراعة على مائدة غداء وبعد الغداء وقف فى شرفة القصر وراح يلقى بقطع من اللحم على فلاحين تجمهر قلة منهم طمعا فى ان ينالهم بعض الخير، ثم أمر الأمير بعد ذلك ان يتم توزيع ما بقى على فلاحى الوسية، ثم حدث الأمير ضيوفه بأنها المرة الأولى التى يجرى فيها توزيع بقايا الطعام على الفلاحين فالعادة كانت تقضى بحرق ما يبقى من أطعمة بعد الولائم إلا ان والدة هذا الأمير طلبت من ابنها توزيع بقايا الطعام على الفلاحين لعل دعوة صالحة من أحدهم تدخل زوجها الجنة. ضحكنا من الحكاية وقال فضيلة الشيخ لا أحد يضمن دخول الجنة بوجبة طعام مسروقة من بطون من أنتجوا خيرا لأصحاب السمو والمعالي. وسأل الشيخ ولده الذى استقبله طه حسين باشا فيما قبل حريق القاهرة ليخبره بنبأ اختياره لبعثة عليا فى زراعة الصحارى بعد أن سمع طه حسين ان اليهود الذين احتلوا فلسطين متفوقون فى زراعة الصحاري. وطبعا أخبر الابن والده بأن البعثة قائمة وانه سوف يغادر إلى الولاياتالمتحدة فور توفير تذكرة على مركب تغادر ميناء فرنسيا إلى نيويورك ثم بالقطار حيث جامعة توجد فى قلب الصحارى الامريكية. وهنا امتلكت الشجاعة انا الذى فى بدء مراهقتى ماذا سيفعل ابن فضيلتك مع الجميلات الأمريكيات اللاتى نراهن على شاشة السينما؟ ضحك الشيخ والجميع قائلا: ألا تعلم ان زوجته المتعلمة ستسافر معه لتدرس فنون الحياة الأسرية وتعود لتدرس فى مدرسة الفنون النسوية؟ سألت الشيخ: أراك غير متعصب كأبى لإيقاظ الجميع قبل أذان الفجر كيلا تفوتنا الصلاة.. لماذا تعصب ابى لإيقاظنا من أحلى لحظات النوم؟. قال الشيخ لأبي: من شاء أن يقوم للصلاة فأهلا ومن أراد استكمال نومه فليفعل. فقال أبي: أريد تعويدهم على البكور ليطول نهار كل منهم، ولاداعى لذكر الوخز من كوع اخى الكبير تحذيرا لى من بريق الغيظ فى عيون أبي. ولعل ما كان من كلمات الشيخ الغرباوى بعد ذلك ما حمانا من غضب الاب قال الشيخ: أهم ما فى أداء الفروض الدينية هو تعليمنا فضيلة الإيمان الاولى وهى البعد عن الكذب، فالقيام لصلاة الفجر يكون طوعا لا كرها. وفضل الصوم الاول هو تدريب الإنسان على الاحتفاظ بمسافة لا يعرفها احد غير الصائم.. إبتعاد عن الكذب. قال أبي: ولكن هناك التقية أى ان يقول الإنسان غير ما يؤمن به خوفا من عقاب سينزل به. قال الشيخ الجليل: فليبتعد المؤمن عن هوس من يمارسون عليه حتمية الرضوخ. ولهذا فرح قلبى بقيام حركة الضباط الاحرار. قلت للشيخ: عن نفسى رفضت الانضمام لاسر الإخوان فى المدرسة لانهم يجعلون الطالب يتجسس على زميله. قال الشيخ: ولذلك حذرت أبنائى ومعهم والدك من الانجرار لدعوتهم فقد ثبت عمليا كذب حسن البنا والذى ارجو ان يغفر الله له دعوته للشباب وتدريبهم على القتل ثم القول من بعد ذلك انهم لا اخوان ولا مسلمين، كى ينقذ نفسه لكن بوليس الملك اصطاده امام مبنى الشبان المسلمين. ويبقى من قول الشيخ الجليل فى ذاكرتى عن فضيلة الإيمان الأولى هى الاحتفاظ بمسافة بين الإنسان وبين الكذب. ولا أنسى اللقاء الاول مع الشيخ أحمد حسن الباقورى فى إحدى مكتبات وسط البلد وكان صاحبها يرجوه التوسط عند فضيلة الشيح عبد المهيمن الفقى مدير البحوث بالأزهر كى يحصل له على حق طباعة اشرطة للقرآن الكريم من تلاوة شيخ نال شهرة فى الموالد والريف لكن المباحث التى تنقب فى تاريخ من يتقدم لينال هذا التصريح لابد للدولة ان تتأكد من حسن سلوكه. وجاء تقرير الشرطة بان ذلك الرجل تزوج من ام ثم طلقها ليتزوج ابنتها وقدم للمحاكمة بتلك الجريمة. واستمع الباقورى لصاحب المكتبة مبتسما ليقول: يبدو أن الشيخ المزعوم قد رغب فى أن يأكل من المجاري.. هذا ما سيحكم به عبدالمهيمن الفقى لو قدمت له مثل هذا الطلب. وهو شيخ عالم بحقوق القرآن ولا توجد ثغرة ينفذ منها احد طلبا لمعصية فى حق كتاب الله. وهو ما أخبرت به العالم الجليل فضيلة الشيخ أسامة الازهرى والذى يعد كتابا عن فضائل شيوخ الازهر القدامى وكان قد قرأ لى معرفتى بفضيلة الشيخ إبراهيم الغرباوى والشيخ عبد المهيمن الفقى فقلت: كلاهما كان يعلم معارفه والأقربين ان جوهر الإيمان هو الاحتفاط بمسافة بين اللسان والقلب وبين الكذب. وهذا ما أذكر به نفسى كثيرا خصوصا مع اقتراب شهر التدريب على الأمانة بالصدق مع النفس.. شهر الصوم. كل سنة وأنتم طيبون. لمزيد من مقالات منير عامر