أعلنت منظمة داعش مسئوليتها عن الحادث الإرهابى الذى جرى فى كنيسة مزدحمة بالمحتفلين بعيد القيامة المجيد وأدى إلى مقتل ما يقارب 300 وجرح 500 غيرهم فى أسوأ عمل إرهابى منذ حادث مسجد الروضة المروع فى قرية الروضة المصرية فى سيناء. ورغم أن أجهزة الإعلام العالمية حرصت من باب الدقة المهنية المفتعلة على أن تلقى الشك على إعلان داعش من أن المنظمة لم تقدم دليلا على قيامها بالعملية فإن الإعلان فى حد ذاته يعبر عن الرغبة فى شيوع القدرة الإرهابية للمنظمة خاصة أن بيانها يماثل الكثير من البيانات السابقة التى ثبت بعد ذلك صدقها. الجديد ربما فى البيان الجديد أن المنظمة الإرهابية حشرت حشرا الحادث الإرهابى فى نيوزيلندا الذى كان موجها لقتل مسلمين ساعة الصلاة، باعتبار أن عملها الآن فى سريلانكا هو نوع من الانتقام. مثل ذلك لن يغسل اليد الآثمة والملوثة بدماء الأبرياء، ولكنه يوجهنا إلى حقيقتين بالغتى الأهمية: أولاهما أن الإرهاب لا يزال مستمرا، وثانيتهما أن الهدف الحقيقى للإرهاب هو خلق الكراهية والعداء والضغينة بين بنى البشر. داعش لا تهتم كثيرا بكرامة المسلمين بعد أن بلغ قتلاها من المسلمين أكثر من 95% ممن قامت بقتلهم أو جرحهم أو تدمير قراهم ومدنهم. وفى دولة الخلافة جرى استعباد النساء على اختلاف طوائفهن، وامتهان الرجال على تنوع أديانهم، واختطاف البراءة من الأطفال بعد تجنيدهم. وببساطة لا يوجد فى تاريخ داعش ما يجعلها مدافعا عن حقوق المسلمين، أو يعطيها الحق فى القيام بهذه المهمة. ولكن العملية الإرهابية فى سريلانكا تلقى ضوءا أحمر على أن سقوط دولة الخلافة لا يعنى نهاية الإرهاب؛ فالحقيقة هى أن داعش مع سقوط الدولة ربما باتت أكثر خطورة مما كانت عليه فى أثناء وجودها. فرغم الضجة الإعلامية التى صاحبت خطاب أبو بكر البغدادى فى إعلان الخلافة، فإن القاعدة الجغرافية التى قامت عليها كانت جاذبة للإرهابيين والمغامرين القتلة من كل أنحاء العالم، ومن ثم سهلت على تحالف دولى تكبيدها خسائر فادحة فى العدد والعدة. سقطت الدولة لكن التنظيم لم يسقط، بل أنه نجح من خلال عملية للتراجع التكتيكى أحيانا من خلال الخروج الآمن من مناطق؛ والتراجع الإستراتيجى من خلال نقل مسارح العمليات إلى مناطق أخرى من العالم مثل أفغانستان وليبيا والفلبين والصومال ونيجيريا، ومؤخرا الكونغو الديمقراطية، فى القيام بعمليات إعادة التجميع والبحث عن مجندين والتعبئة للموارد المالية والتسليحية. المنظمة الإرهابية ربما جرحت جرحا داميا، لكنها لم تقتل، والمرجح أن المعركة معها لا تزال مستمرة ما لم تكن هناك مقدرة كبيرة على وقف عمليات التجنيد التى تنشطها العمليات الإرهابية التى تصيب جماعات بعينها بنشوة غير عادية، ومن خلال الدعايات المنظمة التى تصور العالم كله على أنه ضد المسلمين. هنا تأتى عملية سريلانكا لكى توضع فى سياقها وهو أن رد فعل الحكومة النيوزيلندية للحادث الإرهابى ضد المسلمين فى مدينة كنيسة المسيح قد وضع مواجهة الإرهاب فى إطارها الصحيح وهى مواجهة الكراهية والغضب الذى تسعى كل الجماعات الإرهابية على اختلاف مللها ونحلها وأسبابها وطوائفها إلى تعميقه والتلاعب به لكى يستمر توافد المجندين والمتبرعين وتجار السلاح والمعلومات. لقد قررت داعش ألا تترك ما حدث يمر دون أن تتخطاه بعمل إجرامى تجاوز كل الحدود، وباستخدام الأعمال الانتحارية التى تضمن الوصول إلى الهدف. ولما كان جوهر عملية مقاومة هذا الإرهاب هو ليس فقط توجيه الضربات الأمنية للإرهابيين وتصفية خلاياهم؛ وإنما حرمانهم من الإحلال محل من يتم تصفيتهم بمتطوعين جدد. الثابت هو أن العالم أصبح أكثر منعة من الناحية الأمنية؛ وربما كان ممكنا تجنب العملية الأخيرة فى سريلانكا لو أن السلطات السريلانكية وثقت فى المعلومات التى حذرتها، أو أن المعلومات وصلت إلى الجهات التى يمكنها اتخاذ إجراءات وقائية. لكن الدرس الأكبر سوف يظل باقيا وهو أنه لا يوجد مكان ولا دولة فى العالم فى منأى عن الإرهاب. هذه الحقيقة تعرفها مصر جيدا، وما موقفها من حملة طوفان الكرامة للجيش العربى الليبى إلا جزء من مقاومة الإرهاب وحماية الأمن القومى المصرى فى حدوده الطويلة مع ليبيا. فلم يكن فى الأمر خلاف على الحل السياسى للأزمة الليبية التى طالت أكثر مما ينبغي، ولكن كان الخلاف أن تكون حكومة الوفاق الوطنى واقعة تحت حماية ميليشيات إرهابية بينما تعطيها الحكومة شرعية الوجود على الأرض الليبية. مثل هذا التصرف فيه الكثير من اليقظة الممتدة من سيناء إلى طرابلس تشهد على الحنكة السياسية والعسكرية التى تستكمل بنفس الحكمة فى حرمان الإرهاب من كسب معركة القلوب والعقول، وهذه كما جرت فى نيوزيلندا يجب أن تحدث فى مصر، وتنطلق منها قوية وعفية أن قلوبنا مع سريلانكا، فلا داعش تمثلنا، ولا تمثل ديننا، ولا تمثل حضارتنا. فالمسألة هى أن نخلق تحالفا عالميا لمحاربة الإرهاب، ولا يكون ذلك إلا إذا كان على قمة جدول الأعمال العالمى حيث لا توجد منافسة فضلا عن صراعات بين الحضارات التى قامت عليها الحضارة الإنسانية المعاصرة؛ كما لا توجد منافسة بين الأديان. إن الإعلان العالمى للأخوة الإنسانية الذى وقعه فى أبوظبى قبل فترة قصيرة شيخ الإسلام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، والبابا فرانسيس، وحضر فيه جمع من ممثلى ديانات العالم التى حضت، فيما عدا متطرفيها، دوما على الأخوة بين بنى البشر. كان ذلك شهادة على أن الأديان فى مجموعها سعت إلى الحب وليس الكراهية، وإلى التعاون وليس الصراع، والتآخى وليس النفور. تنظيم ذلك فضلا عن الدعوة يأتى من جانب الحكومات، ولسنوات طوال طالبت مصر بعقد مؤتمر دولى لمحاربة الإرهاب يقيم نظما للتعامل مع التمويل والتسليح والتجنيد، ولكن أهم مهماته الآن هى التعاطف مع كل الدول التى تبتلى بعمليات إرهابية، فالهزيمة الكبرى للإرهاب سوف تكون ساعة فشله فى بث الكراهية بين شعوب العالم. الرسالة دائما هى أن قلوبنا سوف تكون مع سريلانكا حتى تكون قلوب كل العالم معنا. لمزيد من مقالات د. عبد المنعم سعيد