اليوم: بناءً على طلب إنزاجي.. الهلال يبدأ المفاوضات مع سافيتش لتجديد تعاقده    كرة يد - يحيى خالد يسجل 9 أهداف بخسارة سان جيرمان.. وانتصار برشلونة في غياب الدرع    بمناسبة التأهل لكأس العالم.. تأجيل الجولة السابعة من الدوري القطري    تركيب القضبان والفلنكات.. شاهد معدلات تنفيذ القطار السريع    طائرة وزير الدفاع الأمريكي تهبط اضطراريا في بريطانيا    ألمانيا وأوكرانيا توقعان اتفاقية لتعزيز التعاون في مجال الدفاع    بلدية مدينة غزة: نعيش واقعا كارثيا ونحتاج جسرا إغاثيا عاجلا    مبعوث ترامب غير الرسمي في مفاوضات غزة «بشارة بحبح» ل« المصري اليوم»: ترتيبات السيسي ب «قمة شرم الشيخ» أعادت مصر للقيادة العربية (الحلقة 45)    عمرو موسى: قمة شرم الشيخ لحظة دقيقة ومرحلة إيجابية لإنهاء الحرب في غزة    ترشح 417 على المقاعد الفردية فى اليوم الأخير لتقديم الأوراق بانتخابات النواب    موعد صرف مرتبات شهر نوفمبر 2025    معرض باص وورلد أوروبا 2025 يشهد المزيد من المفاجآت والأرقام القياسية    الاتحاد السعودي يحسم مصير رينارد    أوسكار يجتمع مع حكام تقنية الفيديو بعد عودته من تشيلي    أحمد الجندى: هدفى ذهبية أولمبياد لوس أنجلوس.. وهذا سبب اعتذارى عن انتخابات الشمس    رياضة ½ الليل| هنا ملكة أفريقيا.. أول قائمة لتوروب.. سجن فينيسيوس.. وكواليس اجتماع الزمالك    مصرع مسجل خطر في تبادل النيران مع الشرطة بقنا    نجاة 3 أشخاص بعد سقوط سيارتهم في ترعة المريوطية وانتشالها بجهود الحماية المدنية    خشية الفضيحة.. تقتل رضيعتها وتلقيها في صندوق قمامة والمحكمة تعاقبها بالمشدد    السيطرة على حريق أتوبيس ركاب دون خسائر بشرية فى القناطر الخيرية    عمرو موسى: مصر تعاني من تحديات داخليا وخارجيا بسبب سوء إدارة الحكم ل70 عاما    اليوم.. آمال ماهر تفتتح مهرجان الموسيقى العربية على مسرح النافورة    تعرف على أسعار تذاكر زيارة المتحف المصرى الكبير بعد الافتتاح الرسمي للمصريين والسائحين    غادة عبد الرازق تعود بقوة في رمضان 2026 ب«عاليا»    أحدث ظهور.. سهر الصايغ في لحظات روحانية مؤثرة أثناء أداء العمرة    ليلى علوي رئيسا للجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بمهرجان الجونة السينمائي    محافظة الإسماعيلية تستعد لإقامة لمهرجان الإسماعيلية الدولي للفنون الشعبية    هيئة الدواء:أهمية التعاون بين الطبيب والصيدلي في ترشيد استخدام الدواء    طبيب قلب يوجه تحذير عاجل لمن هم فوق ال 40 عامًا    خبير تربوي يكشف أسباب التعدي على المعلمين وكيفية معالجته    ترامب يهدد بنقل مباريات كأس العالم من مدن أمريكية «غير آمنة»    تركيب القضبان والفلنكات بالخط الأول من شبكة القطار الكهربائى السريع..فيديو    رئيس هيئة الدواء: مصر تمتلك منظومة رقابية متكاملة تغطي صناعة وتوزيع الدواء    فتح باب الترشح للعمل بلجان مراقبة امتحانات الدبلومات الفنية بالمنيا والمحافظات    «قصور الثقافة» تشارك في معرض الأقصر الرابع للكتاب ب200 عنوان من أحدث إصداراتها    هل يجوز شراء شقة بنظام التمويل العقاري بقصد الاستثمار؟.. أمين الفتوى يجيب    هل الألعاب الإلكترونية التي تدر أرباحًا مالية حلال أم حرام؟.. أمين الفتوى يوضح    حسين هريدي: القمة المصرية السودانية بحثت جهود وقف حرب السودان والتحضير لاجتماع واشنطن    ميسرة بكور: أوروبا تسعى لاستقلال أمنى عن واشنطن فى ظل التباعد عبر الأطلسى    الصحة العالمية: نموذج برنامج التطعيم الإجباري فى مصر يحُتذى به على مستوى العالم    «تجهز في 5 دقايق».. حضري طبق «السبانخ بالكريمة» وتمتتعي بالمذاق الشتوي (الطريقة والخطوات)    محافظ جنوب سيناء يبحث آليات البدء في تنفيذ مشروع محطة إنتاج الطاقة والهيدروجين الأخضر بمدينة الطور    بعد دعوته للانعقاد.. تعرف على الضوابط التنظيمية للجلسة الافتتاحية لمجلس الشيوخ    جامعة قناة السويس تنفذ برنامجًا تدريبيًا توعويًا بمدرسة الجلاء الابتدائية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 15-10-2025 في محافظة الأقصر    من قلب غزة: تحيا مصر.. ويحيا السيسى    صحة المنوفية تواصل استعداداتها للاعتماد من هيئة الاعتماد والرقابة    وزير العمل يلتقي رئيس غرفة تجارة وصناعة قطر لتعزيز التعاون بالملفات المشتركة    شريف حلمي: الأكاديمية العربية شريك أساسي في إعداد كوادر مشروع الضبعة النووية    وزير المالية: تحسن أداء الاقتصاد المصرى خلال الربع الأول من 2025-2026    سلوك عدواني مرفوض.. «خطورة التنمر وآثاره» في ندوة توعوية ل«الأوقاف» بجامعة مطروح    إيفاد: الحلول القائمة على الطبيعة تحسن رطوبة التربة وتزيد كفاءة أنظمة الري    متحدث الحكومة: تمويل 128 ألف مشروع بالمحافظات الحدودية ب4.9 مليار جنيه    حكم تشغيل القرآن الكريم عبر مكبرات الصوت قبل الفجر والجمعة    الجامع الأزهر يقرر مد فترة التقديم لمسابقة بنك فيصل لذوى الهمم حتى 20 أكتوبر الجارى    القومي لحقوق الإنسان يشارك في مؤتمر الحوكمة ب كيب تاون    ب 20 مليون جنيه.. «الداخلية» توجه ضربات أمنية ل«مافيا الاتجار بالدولار» في المحافظات    عاجل- مجلس الوزراء يشيد باتفاق شرم الشيخ للسلام ويؤكد دعم مصر لمسار التسوية في الشرق الأوسط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية
مدنية دستور 1923 2-
نشر في الأهرام اليومي يوم 26 - 04 - 2019

بقدر ما كان دستور 1923 نفسه يعنى مرحلة جديدة فى رحلة الدولة المدنية، فى مسارها الصاعد المُتنقِّل من التفويض الدينى إلى العَقد الاجتماعى، فإن دستور 1923 على وجه الخصوص كان تجسيدًا لكل ما حققته دعوات الدولة المدنية السابقة من تقدم، وما طرحته أفكار المجتمع المدنى من صيغ لصورة المستقبل. ولقد انطوت «لجنة الثلاثين» نفسها على تناقضات هذا المسار الصاعد سلبًا وإيجابًا، فضمت إلى جانب العلمانى داعية الدولة المدنية (من أفندية الاستنارة وشيوخها) رَجل الدين الأزهرى التقليدى النَّقلى الذى ظل يفكر فى الدولة الدينية التَّسلطية بحكم تربيته الأزهرية التقليدية. وجمعت اللجنة بين أنصار الملكية المُقيَّدة وأنصار الملكية المُطلقة. ووصلت دعاة العدل الاجتماعى من مُمثلى الجماهير بأبناء البيوتات الكبيرة من الصفوة. وجاورت بين المسلم والقبطى واليهودى فى مشروع جديد لدستور جديد، يُحقق الدولة المدنية التى تطلعت إليها الطليعة الواعدة، التى رأت فيها صيانة من مخاطر الدولة الأوتوقراطية والثيوقراطية على السواء. ونظر الجميع إلى مشروع هذا الدستور على أنه السبيل الوحيد لصيانة المجتمع الآتى مع العهد الجديد بما يمكن أن يتضمنه من الأحكام الخاصة بكفالة المساواة فى الحقوق والواجبات بين المصريين جميعًا، دون اعتبار للدين أو الجنس أو اللغة أو غيرها، وكفالة حرية الاعتقاد الدينى وحرية مُمارسة الشعائر الدينية لكل مواطن من مواطنى الأُمة المدنية فى دولتها المدنية الحديثة. أضف إلى ذلك تأكيد مبدأ تداول السُّلطة، والوصل بين العدل الاجتماعى والديمقراطية، وصيانة تحديث التعليم وتحريره، ومراقبة المَلكية بواسطة نواب الأمة التى هى مصدر جميع السُّلطات.
وبسبب الضغوط التى مارسها أنصار المَلكية المُطلقة على عمل اللجنة، وعمليات الحذف والتعديل التى قام بها الملك فؤاد (داعية الأوتوقراطية الذى لم يتردد فى السعى إلى أن يُضيف إليها ثيوقراطية جديدة بعد سقوط الخلافة العثمانية)، فى صياغة مشروع الدستور ومحاولات مشايخ الأزهر النقليين التقليديين، تقييد النصوص المدنية بما يُعرقلها ويحد من انطلاقها التنويرى، وصراع العلمانيين لتأكيد معنى الدولة المدنية وإطلاقه وتأسيس المجتمع المدنى وإشاعة حضوره الساطع فى كل النصوص التى تتصل بحقوق المواطنين وواجباتهم، وحدود الدولة وسُلطاتها. بسبب ذلك كله جاء دستور 1923 نتيجة طبيعية لكل المحاولات السابقة والاتجاهات المُصاحبة، حاملًا أشكال المجاوَرة بين المُتناقضات التى أسهمت فى صياغته. ولكنه كان خطوة صاعدة، من حيث هو نتيجة، فى طريق تقدم الدولة المدنية وتحقيقها، بل يمكن النظر إليه بوصفه أعلى أشكال التجسيد القانونى الذى وصلت إليه دعوات هذه الدولة، والذى ظلت تنقله بعد ذلك وتُحاكيه فى الدساتير اللاحقة عليه أو الناسخة له، ابتداء من دستور صدقى باشا (عام 1930) وانتهاء بدستور السادات (عام 1971).
ولقد نجح العلمانيون الديمقراطيون فى لجنة الدستور وخارجها فى أن يصوغوا سُلطات الدولة، دستوريًّا، بما يحول دون المَلك والسيطرة على أجهزة الإدارة الحكومية، ويُفرد الوزارة البرلمانية بالسُّلطة الفعلية، على نحو غَدَا معه مجلس الوزراء هو المُهيمن على مصالح الدولة (م57)، ولا يلى الوزارة أحد من السُّلطة المالكة (م59)، ولا تصبح توقيعات الملك فى شئون الدولة نافذة إلا بعد أن يوقِّع عليها مجلس الوزراء والوزراء المختصون (م60)، وأن أوامر الملك الشفاهية أو الكتابية لا تُخلى الوزراء من المسئولية بحال (م 61) فالوزراء مسئولون فى النهاية، أمام مجلس النواب الذى ينوب عن الأُمة التى هى مصدر جميع السُّلطات (م 61، 23).
ولقد أصبحت صورة الدولة المصرية، مع هذا الدستور، دولة ملكية ذات سيادة، حرة مستقلة، تحكمها حكومة نيابية (م1)، تُراقبها الأُمة مُمثلة فى نوابها، ويتولى مجلسا الشيوخ والنواب السُّلطة التشريعية بالاشتراك مع المَلك (م24)، وتتولى السُّلطة القضائية المستقلة المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها (م30) والقُضاة مستقلون لا سُلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون وليس لأية سلطة فى الحكومة التدخل فى القضايا (م 124) ولا يجوز عزلهم أو نقلهم إلا وفقًا لشروط القانون (م 127). والنظام النيابى المنصوص عليه هو النظام البرلمانى الذى يجعل الوزارة مسئولة بالتضامن أمام مجلس النواب (م 61) وعضو البرلمان ينوب عن الأمة كلها ولا يجوز للناخبين ولا للسُّلطة التى تُعيِّنه، توكيله بأمر على سبيل الإلزام (م 91) ولا يجوز مؤاخذته فيما يُبدِى من الأفكار والآراء فى مجلس الشورى والنواب ( م 109) ولا يجوز فصله إلا بقرارٍ صادر من المجلس التابع له (م 112). أما رئيس الدولة أو المَلك فهو غير مسؤول (م 33) ويتولى سُلطته بواسطة وزرائه (م 48) وقبل أن يُباشر سُلطته يحلف اليمين الدستورية أمام مجلسى الشورى والنواب. وتنص اليمين على الحلف بالله العظيم على احترام الدستور وقوانين الأُمة المصرية (م 50).
وكانت هذه المواد الأخيرة على وجه الخصوص نتيجة كفاح الديمقراطيين فى لجنة الدستور وخارجها، ونجاحهم فى أن يصوغوا سُلطات الدولة بما يُقلِّص هيمنة المَلك المُطلقة على أجهزة الإدارة الحكومية، ويستبدل بسُلطتِه سلطة الوزارة البرلمانية فى السيطرة على أجهزة الإدارة المدنية والجيش والشرطة. وكانت ذروة نجاحهم هى المادة الثامنة والأربعين والمادة الستين معًا، فالأولى تنص على أن الملك يتولى سُلطته بواسطة وزرائه، والثانية تقرن تنفيذ توقيعات الملك فى شئون الدولة بضرورة أن يوقِّع معه رئيس الوزراء والوزراء المختصون.
ويوازى نجاح تقييد المَلكية، فى هذا الدستور الواعد للدولة المدنية، قدر النجاح الذى تحقق فى تأصيل مبدأ الفصل بين السُّلطات، فهناك السُّلطة التنفيذية التى يتولاها الملك الذى يحكم بواسطة وزرائه الذين يُشرفون على الأجهزة المختلفة، أو الذين يُحاسَبون أمام البرلمان الذى يتكوَّن من نواب الأمة، طبقًا لمواد الدستور التى توكل استمرار الوزارة إلى ثقة النواب، وتمنع الوزير من الاشتراك فى أى عمل تجارى أو مالى طوال وزارته. وهناك السُّلطة القضائية المُستقلة التى يحميها استقلالها من تدخل السلطة التنفيذية، أو إرهابها أو قمعها، والتى تمارس عملها بوصفها القاضى الطبيعى للمواطنيين، فى ظل الدستور الذى يكفل استقلال القضاء، ويمنع أية سلطة فى الحكومة من التدخل فى القضايا، ويحرم عزل القضاة أو نقلهم، ويصون الدور الذى يقومون به فى الإشراف على تداول السلطة بواسطة الانتخابات النزيهة. وهناك السلطة النيابية المكوَّنة من نواب الأمة التى هى مصدر جميع السلطات والتى تتولى مراقبة السلطة التنفيذية، وتسحب الثقة منها إذا أخلت بالأمانة الموكولة إليها، وتملك الحق فى اتهام الوزراء وإيقافهم عن العمل إلى أن يقضى مجلس الأحكام المخصوصة فى أمرهم. وهى، أخيرًا، السلطة التى تنقل مطالب الأمة وتعبر عن أمانيها، وترعى الأصول الديموقراطية المرتبطة بضمان حق الاختلاف وحرية التعبير.
ولا وجود فعليًّا، فى هذه السلطات المستقلة، للمؤسسة الدينية من حيث هى سلطة مُقابِلة، فالسلطة التى يحددها الدستور فى بابه الثالث (بعد الباب الأول الذى يُحدد نظام الحُكم، والباب الثانى الذى يُحدد حقوق المواطنين وواجباتهم) سلطات مدنية حصرًا، تتكون من السلطة التنفيذية (المَلك والوزراء)، والتشريعية (البرلمان: مجلس الشيوخ ومجلس النواب) والقضائية. وإذا تركنا الباب الرابع (عن المالية) والخامس (عن القوة المُسلحة) لا يتبقى فى الدستور سوى أحكام عامة، تبدأ بالمادة (149) التى تنص على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية (م 149). وتتضمن المادة (153) التى تنص على أن القانون ينظم الطريقة التى يُباشر بها الملك سلطته طبقًا للمبادئ المُقرَّرة بهذا الدستور فيما يختص بالمعاهد الدينية وبتعيين الرؤساء الدينيين وبالأوقاف التى تديرها وزارة الأوقاف.
وفيما عدا هاتين المادتين اللتين لا تمنحان المؤسسة الدينية امتيازًا خاصًّا، أو تنظر إليها بوصفها سُلطة، لا تميز مواد الدستور بين الأديان، وتؤكد حرية الاعتقاد بما ينفى مفهوم السلطة الدينية، ابتداء، وتضع التعليم الدينى تحت رعاية الملك مع مشايخ الطُّرق الصوفية ورجال الدين بوجه عام، وذلك بعد أن أوكلت المادة إلى المَلك مُباشرة المسائل الخاصة بالأديان المسموح بها فى البلاد، حسب قانون خاص، طبقا للمبادئ المقررة بهذا الدستور.
ويكتمل معنى التحديد للسُّلطة الدينية، فى هذا الدستور، عندما نقرنه باستقلال القضاء الذى غدت قوانينه وضعية، وقُضاته الذين لا سلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون، وليس لأية سلطة فى الحكومة التدخل فى القضايا(م 124) صيانة للقانون ولحق المُتَّهم الذى يجب أن يكون له من يدافع عنه (م130). ويزداد هذا المعنى اكتمالًا عندما تقرن «حرية الاعتقاد المطلقة» التى نصت عليها المادة الثانية عشرة بما نصت عليه المادة الثالثة عشرة، من واجب الدولة فى حماية حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد، والمادة السادسة عشرة التى تمنع تقييد حرية أحد فى الأمور الدينية.
وإذا أضفنا كفالة حرية الرأى والصحافة التى تعنى حق الاختلاف وحرية المعارضة، فضلًا عن حق الاجتماع، تأكدت دلالة الانتقال إلى السلطة المدنية التى اكتملت دائرتها بصيانة الدستور لعملية تحديث التعليم وصيانة طابعه المدنى بمواده. ولذلك نصَّت مواد الدستور فى الباب الثانى، الخاصة بحقوق المصريين وواجباتهم على حرية التعليم، وقرنت هذه الحرية بصيانة الحريات العامة والخاصة، والملكيات العامة والخاصة، ومعنى المواطنة نفسه. وبذلك غدا التعليم حُرًّا طبقًا للمادة السابعة عشرة، والتعليم الأوَّلِى إلزاميًّا، للبنين والبنات، ومجانيًّا فى المكاتب العامة، طبقًا للمادة التاسعة عشرة، فقد نص على تنظيم أمور التعليم العام بقانون. وذلك فى سياق من النصوص الدستورية التى كفلت تعليم البنات والبنين معًا، فأقامت المساواة بين الجنسين فى حق المعرفة، وكفلت حق المعرفة للمواطنين جميعًا بلا استثناء، بواسطة التدخل المالى للدولة التى لا تميز مدارسها بين الطلاب على أساس خارج مبدأ المواطنة نفسه، وصانت حرية المواطن فى أن يتلقى المعرفة التى يريدها بضمان حرية إنشاء المدارس المدنية فى التعليم العالى الذى بدأت الجامعة الأهلية فى تقديمه منذ إنشائها فى العقد الأول من القرن الماضى (عام 1909).
ولقد كان إنشاء هذه الجامعة إكمالًا لرمزية التحول من التلقين الدينى الذى كان يُمارسه التعليم الأزهرى إلى التعليم المدنى الذى استبدل بالعالمية الدكتوراة، وبالنقل العقل، وبالرواية الدِّراية، وبمثاقفة الشيخ التقليدى مثاقفة الأفندى المُطربش الذى كان أول من منحته الجامعة الجديدة درجة الدكتوراة عام 1914، قبل صدور دستور 1923 بسبع سنوات على وجه التحديد.
وقد جاء دستور 1923 ليسجل هذا التحول فى التعليم ويصونه بمواده، جنبًا إلى جنب التحول من الملكية المطلقة إلى الملكية المقيدة، ومن الثيوقراطية إلى العَقد الاجتماعى، ومن أن الملك بالدين يبقى إلى أن الملك يستمد شرعيته من الأُمة التى هى مصدر جميع السلطات.
ويوازى نجاح تقييد الملكية، وتقليم أظافرها، نجاح موازٍ فى تأكيد مبدأ التسامح وحق الاختلاف، ومن ثم تأكيد المساواة بين الأغلبية الدينية والأقليات جميعًا فى الحقوق والواجبات، وتأكيد المساواة بين المواطنين جميعًا، داخل الدين الواحد، بغض النظر عن مذاهبهم الفرعية أو تأويلاتهم الاعتقادية. وذلك نجاح ارتبط بتأكيد ما ينبغى أن تقوم عليه الدولة المدنية بوصفها الوعاء المُحايد الذى يؤلِّف بين الأقلية والأغلبية دون تمييز، على أساس من الحرية التى تسمح بالتعدد والاختلاف، وتكفل حق الاجتهاد والمغايرة وتصونه دستوريًّا.
هكذا، نص الدستور على أن المصريين سواءٌ لدى القانون، وأنهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين (م3)، والحرية الشخصية مكفولة (م4 ) ولا يجوز القبض على إنسانٍ أو حبسه إلا وفق أحكام القانون (م5) ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون (م6) وكل متهم بجناية يجب أن يكون له من يُدافع عنه (م130) وللمنازل حُرمة (م9) ولا يجوز إفشاء أسرار الخطابات والتلغرافات والاتصالات التليفونية إلا فى الحدود المُبيَّنة فى القانون (م11) وحرية الاعتقاد مُطلَقة (م12) وتحمى الدولة حرية القيام بشعائر الأديان (م13) وحرية الرأى مكفولة، ولكل إنسان الإعراب عن فكره (م14) والصحافة حرة فى حدود القانون. والرقابة على الصحف محظورة، وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإدارى محظور كذلك (م 15) ولا يسوغ تقييد حرية أحد فى استعماله أية لغة أراد فى المعاملات الخاصة أو التجارية أو فى الأمور الدينية أو فى الصحف والمطبوعات أيًّا كان نوعها أو فى الاجتماعات العامة (م16) وللمصريين حق الاجتماع فى هدوء وسكينة. وليس لأحد من رجال البوليس أن يحضر اجتماعهم ولا حاجة بهم إلى إشعاره (م20).
وإذا كانت لجنة الدستور قد أفلحت فى استبعاد فكرة التمثيل النسبى للأقليات من صياغة الدستور، وذلك حتى لا يتسرب التمييز فى الدولة المدنية التى يسعى الدستور إلى تجسيدها، فإن اللجنة اضطرت إلى قبول ما طالب به الشيخ محمد بخيت، مفتى الديار المصرية، وقتها، وعضو لجنة الدستور، حين قدم اقتراحًا إلى اللجنة فى النص فى الدستور على أن يكون دين الدولة هو الإسلام، ووافقت اللجنة على هذا النص، ولم يستطع العلمانيون من دعاة الدولة المدنية معارضة النص الذى صدر به الدستور فعلًا فى المادة (149) وتنص على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية. وقد علقت صحيفة «الوطن» فى ذلك الوقت بأن هذا النص قد يؤدى إلى تمييز لا محل له، وأنه يبتعد بالدستور عن الأنظمة الحديثة التى تفصل بين الدين والسياسة. وأضافت أنه يثير إشكالًا مُهمًّا، وهو أنه إذا كان هناك سلطة تشريعية أوجد الدستور لها مصدرًا هو المَلك والوزارة، وسلطة قضائية مصدرها القضاء، فإن النص على دين الدولة يوجب إيجاد مصدر له والاعتراف بسلطة دينية هى «الخلافة»، وهو مصدر يخرج عن دائرة السلطات التى يجب النص عليها فى الدستور، ويتناقض مع مبدأ أن الأُمة - كل الأمة - هى مصدر السلطات، ويفضى إلى تأصيل العلاقة الخاصة مع دولة الخلافة، وتركيا العثمانية، وفى ذلك خروج عن أهداف الدستور ومراميه المدنية التى تؤكد الاستقلال لا التبعية على مستوى الوطن والمواطن فى آن.
ولكن صدور الدستور نفسه، على نحو ما انطوى عليه من نصوص ضابطة لهذه المادة، وإعماله فى تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، وتأكيده مسائل الحريات، خفَّف من المخاوف التى أبدتها جريدة «الوطن»، والقلق الذى شعر به دعاة الدولة المدنية، خصوصًا بعد أن اكتسح الوفد الانتخابات، وتشكَّلت حكومة برلمانية، وأصبح الملك يُمارس سُلطاته بواسطة وزرائهِ قولًا وفعلًا.
(وللمقال بقية)
لمزيد من مقالات د.جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.