ذكرتنى أقوال المرحوم أنيس منصور فى المرأة كما نقلتها الأستاذة سناء البيسى (الأهِرام، 13 أبريل 2019) بأن للمرأة مكانة خاصة وغريبة فى تفكير الرجل، ولاسيما إذا كان كاتبا، أو شاعرا أو ناثرا. لننظر مثلا فى شعر الحب والغزل الذى يتغنى به الرجال منذ قديم الزمان وحتى يومنا هذا، أو فيما كتبوه من روايات ومسرحيات جعلوا بطولتها لامرأة. وصورة المرأة كما تظهر فى هذه الأعمال تتراوح أحيانا بين التأليه والشيطنة، بين الملاك وحليف إبليس، بين القداسة والدنس. وهى كائن غريب وسر مستغلق لا يتكشف إلا ليحتجب. وهى تدعو الرجل على نحو أو آخر ليقع فى حبائلها ويؤول إلى الفقدان. فبافنوس فى رواية تاييس لأناتول فرانس راهب متنسك ورع يتعبد فى صومعته، ولكنه يشعر ذات يوم بأن الواجب يدعوه إلى الذهاب إلى الإسكندرية ليهدى تاييس الغانية، إلى حظيرة الرب. وهو يلبى الدعوة وينجح فى هداية تاييس التى تصبح قديسة، ولكنه يفقد نفسه، لأنه لا ينجو من سحر الغانية ويقع فى حبها ويتبع طريق الشيطان. وعلى نفس المنوال نسج أندريه جيد رواية الباب الضيق، وعلى نحو مشابه أدارسومرست موم مسرحيته المعنونة المطر. وربما كانت هذه القصص جميعا تنويعات على أسطورة بجماليون اليونانية القديمة. وأرجو ألا أكون مخطئا إذا قلت إننا لا نكاد نجد للرجل صورة مماثلة فى كتابات النساء التى تتناول حب المرأة للرجل. فالرجل فى هذه الحالة قد يكون شخصية متميزة من حيث الفضيلة أو الشر، ولكنه ليس سرا ولا لغزا ولا مصدرا للغواية. وثمة إذن اختلاف لافت للنظر وفى حاجة إلى تفسير. وهو اختلاف يقتصر على صورة الإنسان كما تبدو فى مجال الكتابة والفن.إذ يخيل إلى أن الرجال فى حياة الواقع لا يختلفون أساسا عن النساء فى موقفهم من الجنس الآخر. فقد يجن الرجل حبا فى امرأة، ولكن هذا النوع من أنواع الجنون لا يقتصر عليهم، فالمرأة بدورها قد تجن حبا فى رجل. والجنسان إذن سواء فى جنون الحب أو هيامه فى عالم الواقع. أما الجنون بالجنس الآخر فى عالم الكتابة والفن، فهو فيما يبدو وقف على الرجال. والاتجاه الغالب فى عالم الأدب والفن هو أن السحر والفتنة والإغواء أمور تقترن بصورة المرأة لا بصورة الرجل. فليس هناك نظير ذكر للجنية التى أرادت أن تغوى يوليسيس (عولس) بغنائها فى الأوديسا لهوميروس، أو للنداهة التى تدعو الرجال فى الفولكلور المصرى لكى تفتك بهم، تعانق الرجل فتقتله أو تنزل به إلى العالم السفلى فلا يظهر له أثر. وهناك بيت مشهور للشاعر الدمشقى ابن الخياط (القرن الخامس الهجري) يقول فيه: خذا من صبا نجدِ أمانا لقلبه/ فقد كاد رياها يطير بلبه. ونحن نعلم أن ريا الحسان أو ما شابهها طارت بألباب الكثيرين من الكتاب والشعراء. فابتسامة بياتريس العابرة طارت بلب دانتى مؤلف الكوميديا الإلهية. وهناك فى هذا الباب نظرات المرأة التى ألهبت خيال الشعراء العرب فتغنوا بعيون المها وعيون الأبقار الوحشية. يقول على بن الجهم: عيون المها بين الرصافة والجسر/جلبن الهوى من حيث أدرى ولا أدري. ولماذا لم يحدث قط أن ابتسم رجل لامرأة فى الطريق ففاضت على لسانها بحور الشعر بدلا من أن تفهم الابتسامة على أنها دعوة إلى شيء أو آخر من الأمور الأرضية؟ ولماذا لا نجد كتابا عن مصارع العاشقات على غرار كتاب مصارع العشاق الذى ألفه الفقيه والأديب أحمد بن جعفر السراج؟ ولماذا لا نجد كتابات نسائية تتناول مجنونة عبالسلام أو مجنونة عبالرحيم، وذلك على غرار ما قال الشعراء العرب منذ القدم وحتى شوقى فى مجنون ليلي؟ وهناك إذن مسافة تقام بين المحب والمحبوب. وقد تكون لهذه المسافة أسباب اجتماعية، ولكنها تكتسب بعدا خياليا أو رمزيا فى عالم الفن. وهى هنا من صنع الرجل. وهكذا ينبغى أن نفهم قول أبى العلاء المعري: فيا دارها بالحزن إن مزارها/ قريبٌ ولكن دون ذلك أهوالُ. وإذا كان صحيحا ما ينسب لتوفيق الحكيم عن المرأة وصينية البطاطس، فينبغى التذكير بأنه هو نفسه من أعاد كتابة أسطورة بجماليون اليونانية، وكان مثله فى ذلك مثل جورج برناردشو عندما أعاد كتابة نفس الأسطورة. والمرأة فى الحالتين كائن من صنع رجل ولكنها تستقل عنه وتتمرد عليه وتسيطر. فعالم اللغويات فى مسرحية برناردشو يلتقط فتاة من عامة الناس، بائعة زهور تنطق بلغة الشارع، ويعيد تشكيلها لتصبح سيدة جميلة رائعة الجمال والنطق، وتفرض سلطانها عليه وعلى المجتمع الراقي. ولا شك لديّ أن برناردشو كان يفتقد وجود ذلك المخلوق الجميل الغريب. فهو نفسه مؤلف مسرحية الإنسان والإنسان الأعلى التى أراد فيها للبطلة أن تمثل قوة الحياة وأن تكون هى المحرك الأول فى عملية الانتخاب الطبيعى والتطور. ولدينا أعزب مزمن نوع برنارد شو، هو عباس محمود العقاد. كان يحب أن يظهر بصورة الرجل القوي، وتحقق له شيء من ذلك عندما وصف بالعملاق. ولكنه هو الذى كتب سارة. ولا شك لدى أنه مثل شو الأعزب الآيرلندى المزمن- كان يحلم بمن تمد له يد الرحمة أو يد طاهية صينية البطاطس - وتقوده إلى القفص. وقد يقال: لقد انتهى كل ذلك، وأصبح فى ذمة الماضي، وانهارت الحواجز بين الجنسين، فليس هناك أميرات ولا فرسان، وأصبح الجنسان يعيش كلاهما على مستوى الأرض: يتصاحبان ويتصادقان ويتحابان، بل وقد يرتديان نفس الملابس (البنطلون الجينز، والقميص الذى لم تلمسه حديدة المكوجي، والشعر المنكوش: «الأفرو» أو «الكنيش»). وهذا صحيح ما لم يصب صاحبنا بمس من الشيطان فينطق بالشعر، وعندئذ تتحول القصة تحولا جذريا، فترتفع صاحبته عن مستواه أو تنخفض، وتحلق إلى عنان السماء أو تهبط إلى أسفل سافلين، وهو عندئذ يجن، ويصبح لا فارق بينه وبين قيس بن الملوح، أو بينه وبين الفتى المجنون الذى يخاطب المساء كما صوره أحمد عبدالمعطى حجازى فى قصيدته الشهيرة. لمزيد من مقالات عبدالرشيد محمودى