أنبأنى بعض أصدقائى الذين قرأوا ما قلته يوم الأربعاء الماضى عن نسيان المصريين الاحتفال بشاعرهم أحمد شوقى فى عيد ميلاده الخمسين بعد المائة أنبأونى أن عدة احتفالات بأمير الشعراء أقيمت خلال الشهور الماضية فى عدة أقطار عربية فشعرت بالرضا والامتنان. فى التاسع عشر من شهر نوفمبر الماضى نظمت جامعة طرابلس بلبنان مؤتمرا دوليا حول شوقى بمناسبة ذكرى مولده. وقد انعقد هذا المؤتمر برعاية وزارة الثقافة اللبنانية واستمر يومين شهدا نشاطا واسعا عالج فيه المشاركون شعر شوقى من كل نواحيه، وكان من بين المتحدثين عميد كلية الآداب، وأمين عام اتحاد الكتاب اللبنانيين، ووزير الثقافة اللبنانى الدكتور غطاس خوري. وفى الثانى والعشرين من شهر مارس الماضى أذاعت إحدى القنوات الفضائية فيلما وثائقيا أنتجته عن شوقي. وفى الإمارات العربية احتفل الشاعر حبيب الصايغ أمين عام اتحاد الكتاب العرب بالمناسبة وبعث برسالة إلى اتحاد كتاب مصر يهنئ فيها الشعراء المصريين ويقترح إقامة احتفال عربى جامع. أقول شعرت بالرضا والامتنان لأن شوقى بما قدمه فى حياته وبما ناله فيها من مجد مستحق أصبح رمزا مصريا وعربيا مذكورا على الدوام، وخاصة فى الأوقات التى تحل فيها ذكراه. فإن لم يحتفل به المصريون فقد ظلموا أنفسهم ولم يظلموه. لأنه بعد أن أكمل دائرة حياته وصار فى العالم الآخر لم يعد معرضا للظلم أو محتاجا للإنصاف. أما نحن، فنحن المعرضون المحتاجون لهما. ونحن نظلم أنفسنا لأن شوقى ثروة وطنية أنتجتها مصر وأنمتها فمن حقها ومن واجبها أن تحتفل بما أنتجت وتدل به. فإن لم تفعل فقدت ثروتها. وإذا كان العرب الآخرون قد احتفلوا بشوقى فقد اكتسب احتفالهم به قيمة مضاعفة، لأنه لم يكن استجابة لداعى الذكرى فحسب، وإنما كان أيضا جوابا وردا على نسياننا إياه! فى هذا الإطار أتحدث عن شوقي. لا عنه كرجل فرد، ولا عن ديوان أنظر فيه منفصلا عما أحاط به وسبقه ولحقه، وإنما أتحدث عن سيرة كانت حلقة فى سلسلة من السير والتواريخ والعلاقات المتشابكة التى اجتمع فيها الكل الذى يفرض علينا فى هذه الأيام أن ننظر فيه لأننا نمر بمرحلة انتقال تستدعى المراجعة، وإعادة النظر فى كل شىء بحثا عن إجابات للأسئلة التى تشغلنا فيها. سؤال الهوية، وسؤال الماضى أو سؤال التاريخ، وسؤال المستقبل، وصولا إلى استقرار مبنى على اليقظة والوعى والطمأنينة والثقة بالنفس. ومن ثم يمكننا أن ننظر فى التفاصيل والمفردات. أما الآن فنحن لا نملك إلا أن نهتم بكل شىء. ولهذا أتحدث عن شوقى داخل مصر وخارجها، وأتحدث عن ثورة 1919 وأنا أتحدث عن شوقي، ليس فقط لأننا نسيناها كما نسيناه فلم نحتفل بها فى ذكراها المئوية الأولي، ولكن لأن شوقى عاش أحداث هذه الثورة فيما سبقها وتلاها، وفى وطنه وفى منفاه. فهو يذكر بها وهى تذكر به. كل شىء لابد أن يكون حاضرا فى أذهاننا الآن، وإلا فنحن معرضون لأن ننسى كل شىء أو لننسى أنفسنا كما ذكرت من قبل. ولهذا أستطرد وأنتقل من أصل إلى فرع أو من فرع إلى أصل لأحول المفردات بقدر ما أستطيع إلى جمل ذات معني. هكذا صنعت فى هذه المقالات الأخيرة التى بدأت فيها من الشعر الذى أصبح عندنا فنا منسيا كان يجب أن نتذكره بمناسبة الاحتفال العالمى بربيع الشعراء وبالعيد الخمسين بعد المائة لميلاد شوقي. لكن ربيع الشعراء حل فلم يجد له مكانا عندنا كما حلت ذكرى ميلاد شوقى فوجدته منسيا أيضا، وحلت الذكرى المئوية لثورة 1919 فوجدتها منسية كذلك . ونحن إذن فى أمس الحاجة لنهضة شاملة نتذكر بها أنفسنا. والعلاقة وثيقة بين هذه الموضوعات التى قد يظن البعض أنها مفردات لا يتصل بعضها ببعض. الشعر كان ركنا من أركان النهضة المصرية الحديثة. والنهضة المصرية فاتحة للنهضة العربية وركن من أركانها. والبارودى لم يكن مجرد شاعر رائد مؤسس، وإنما كان أيضا زعيما من زعماء العرابيين. والثورة العرابية لم تنطفئ بهزيمة عرابي، وإنما بقيت جمرتها حية تحت الرماد حتى عادت للاشتعال فى ثورة 1919 المجيدة. وشوقى كان قريبا من سعد زغلول كما كان العقاد قريبا منه، وكما كان الشاعر العراقى عبد المحسن الكاظمى الذى هاجر إلى مصر معجبا بالزعيم المصرى مادحا له. ومن أماديحه فيه ديوان كامل سماه «معلقات الكاظمى فى عَلَم مصر المفرد ورجل الشرق الأوحد سعد زغلول باشا». جليَّ المعانى أيُّ يوميك أعظم؟ أيومَ تشد الرحْلَ أم يوم تقدم؟ وليس كلا يوميك إلا عزيمةً يشاد بها مجد البلاد ويدعم وسوف أكتفى بما ذكرته دليلا على أن الموضوعات التى تحدثت عنها ليست مفردات مستقلة لا رابط بينها، وإنما هى تاريخ جامع وسيرة متكاملة يجب أن نستعيدها لنحسن قراءتها ونفهم معناها ونستأنف السير فى طريقها الذى هو طريق النهضة. نبدأ من الشعر ونصل إلى الثورة، وننسى شوقى كما ننسى سعد زغلول. فإن تذكرنا زعيم الثورة تذكرنا أمير الشعراء. فى الأيام الأخيرة زودتنا الهيئة العامة لقصور الثقافة بمكتبة قيمة حول ثورة 1919. وفى الأيام الأخيرة أيضا أعلن اتحاد الكتاب المصريين عن جائزة رصدها باسم أمير الشعراء تمنح كل عامين لشاعرين أحدهما من مصر، والآخر من قطر عربى آخر، كما أحيا بيت الشعر ذكرى شوقى فى عدة أمسيات وعدة ندوات قدمها تحت عنوان «مائة وخمسون عاما من الحضور». هل هى صحوة قادمة؟ لمزيد من مقالات ◀ بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى