حين أقارن بين حال اللغة كما عشتها فى صباى وحالها كما هي، الآن، أفزع وأجزع وأشعر بالأسف البالغ والألم الشديد. لكن هذه المقارنة تطمئننى من ناحية أخري، وتمنحنى الثقة فى قدرتنا على تصحيح أوضاعنا اللغوية وإنقاذ لغتنا الفصحى من خطر الموت الذى يتهددها فى هذه الأيام لو قمنا بما يجب علينا نحوها ونحو أنفسنا. فى صباي، أى فى الأربعينيات الأخيرة والخمسينيات الأولى من القرن الماضى كانت الثقافة المصرية مزدهرة وأنا أتحدث هنا عن الثقافة الرفيعة وكانت الفصحى حية منتشرة. المجلات الأدبية يتوالى صدورها، ويرأس تحريرها أمثال سلامة موسي، وأحمد حسن الزيات، وأحمد أمين، وأحمد الصاوى محمد، وطه حسين، وتعتمد فى نفقاتها على ما يقدمه لها الذين أصدروها لأنهم يعرفون أن لها جمهورا قارئا، وأنهم سوف يستردون ما أنفقوه. والكتب المؤلفة والمترجمة تنشر وتقرأ وتناقش فى الصحف والمجلات. وقصائد شوقي، وأحمد رامي، وعلى محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وبشارة الخوري، وإيليا أبو ماضي، وأحمد فتحي، وكامل الشناوي. فضلا عن القدماء من أمثال مهيار الديلمي، وأبو فراس الحمدانى قصائد هؤلاء الشعراء تتحول إلى ألحان رائعة تشدو بها أم كلثوم، وعبد الوهاب، وأسمهان، ويحفظها ويرددها معهم الجمهور العريض، جمهور السينما، ورواد المقاهي. وتلاميذ المدارس يتبارون فى قراءة المنفلوطي، ومصطفى صادق الرافعي، وفى حفظ الشعر، واقتناء الكتب وتبادلها. فى بلدتنا «تلا» منوفية كنا نرى من أهلها البسطاء من يحفظ قصائد عبد الحميد الديب ابن قرية «زرقان» التابعة لتلا، ومن يحفظ يوميات كامل الشناوي. وكان من أبنائها من يكتب الشعر ويلقيه فى الاحتفال بذكرى سعد زغلول. وكان لى فى تلك الأيام صديقان شاعران يدرسان فى المعهد الدينى فى طنطا، وقد تعلمت منهما الكثير وأنا أنظم قصائدى الأولي. وفى مكتبة أبى المتواضعة قرأت ديوان حافظ إبراهيم، وكتب ابن المقفع، وكتاب العقاد عن سعد زغلول الذى عدت إليه وأنا أكتب هذه السطور لأراجع ما قرأته قبل أكثر من ستين عاما عن ثقافة سعد وعن لغته الفصحى التى كان يخاطب بها ملايين المصريين من المتعلمين والأميين على السواء، فلا يتواصل معهم فقط، ولا يقنعهم بما يقول فحسب، بل يثير انفعالهم ويأخذهم معه إلى الثورة، ثورة 1919 التى لم تكن مجرد هبة طارئة أو تغيير لنظام أو حكومة، وإنما كانت روحا عائدة نهضت بها مصر وتصدت لاحتلال الانجليز المحتلين وللملك الطاغية وهى تقول مع سعد زغلول: الحق فوق القوة. والأمة فوق الحكومة! هذه الثورة كانت من النبل والأصالة بحيث لا تستطيع التعبير عنها إلا الفصحى التى استطاع بها سعد أن يخاطب أفئدة المصريين وأرواحهم. والعقاد يقول إن سعدا كان حريصا فى خطبه على تشكيل أواخر الكلمات. وكان يرى أن التسكين نوع من الرياء والكذب يخفى به المتحدث جهله بالإعراب. لكنه كان يستسهل الشائع أحيانا فيخالف القواعد. «وربما استحسن الكلام بالعامية فى بعض الخطب بعد الشروع فى الكلام بالفصحى فيقول لسامعيه مازحا «إن النحوى يتعبنى أحيانا فتعالوا نتحدث كما نتحدث فى كل ساعة». ولكنه لم يكن قط ينسى الاحتفال بصياغة بياناته المهمة فيرتقى بها إلى غاية الوسع من الإيقاع والبلاغة، وينقحها ويعيد كتابتها ثلاث مرات أو أربعا فى بعض الأحيان». ونحن نعرف أن المصريين الذين كانوا يستمعون لسعد بالملايين كانوا فى ذلك الوقت، منذ مائة عام، يتخاطبون بالعامية كما يفعلون الآن. وكانت الفصحى بالنسبة لهم لغة ثقافة لا يعرفها إلا المتعلمون الذين كانوا فى زمن سعد قلة محدودة، لأن المدارس كانت قليلة، ولم يكن التعليم إلزاميا ولم يكن مجانيا وإنما كان بمصروفات لا يقدر عليها إلا الميسورون. فكيف استطاعت الفصحى أن تكون لغة المصريين فى تلك الأيام؟ والفصحى فى ثورة 1919 لم تكن لغة خطابة فقط، ولم ينحصر وجودها فى أيام أو أعوام محدودة، وإنما كانت حاضرة فى أيام الثورة وفيما تلاها من أيام وأعمال. فى البرلمان الذى كان يمثلنا فيه أمثال أحمد لطفى السيد، ومكرم عبيد، ومحمد حسين هيكل، وعباس محمود العقاد، وعبد الرحمن الرافعي، ومحمد مندور، وعزيز فهمي، البرلمان الذى وقف فيه العقاد يحذر الملك فؤاد ويهدده بلغة لم يستعملها المصريون مع حكامهم من قبل ويقول له: إننا مستعدون لتحطيم أكبر رأس فى البلاد إذا اعتدى على الدستور. وكما كانت الفصحى حاضرة فى البرلمان كانت حاضرة فى الشارع الذى كان فيه المتظاهرون يهتفون: عاشت مصر حرة مستقلة، والجلاء بالدماء، وهبى ريح الجنة هبي! فضلا عن حضورها فى الصحف والمجلات، وفى الشعر والنثر، وفى المدارس والجامعة، وفى الإذاعة والمسرح. وبوسعنا أن نفهم من حضور الفصحى فى الثورة وفى النهضة التى أشعلتها الثورة والنهضة التى تحققت بفضلها أن هذا الحضور لم يكن ساكنا محدودا وإنما كان حضورا فاعلا متفاعلا خلاقا. لأن الفصحى تنتشر بهذه الوسائل وهذه المؤسسات، وتتجاوز الحدود الموروثة التى كانت تتحرك فيها من قبل، حدود الأزهر، والمسجد، والمكتب الحكومي، وتصل إلى فئات وطبقات، وتعالج قضايا، وتجرب أشكالا وتنهض بدراسات لم تكن تصل إليها أو تعالجها من قبل، وهكذا انتقلنا من حركة الإحياء إلى الحركة الرومانتيكية، ومن الحركة الرومانتيكية إلى الحركة الواقعية، وتطورت الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، وظهرت حركة الشعر الجديد فى الفصحى وبعدها فى العامية التى أخذت من الفصحى خلال هذه النهضة وأعطتها. ما الذى حدث إذن لتتراجع الفصحى وتصل إلى هذا الوضع المؤسف الذى وصلت إليه، والذى يحب البعض أن يراه حكما بالموت على الفصحي، لأنها فى نظره ليست لغة المصريين؟ هذا هو السؤال الذى أرجو أن أجيب عليه فى مقالة الأربعاء المقبل. لمزيد من مقالات ◀ بقلم . أحمد عبدالمعطى حجازى