* طفولتى كانت بائسة وحزينة * تجاهلتنى وزارة الثقافة فقررت أن أقيم متحفى الخاص
حينما سمعت بأخبار افتتاح متحف الفنان الثرى جورج البهجورى شعرت بالفرح، ولكننى شعرت أيضا بالتردد؛ فقد قمت بمحاورة الفنان عددا من المرات، فما الذى يمكن أن يكون مختلفا هناك؟ بالرغم من ذلك دفعنى فضولى ومحبتى للاتصال به وتحديد موعد.. حينما اقتربت من العمارة الضخمة الذى يشغل المتحف احد طوابقه، فى شارع 26 يوليو، فقط على الجانب الآخر من جريدة الأهرام، وجدت بهجورى جالسا على مقهى أندلسية، الذى يحتل جانباً بجوار واجهة المبنى العتيق، يثرثر مع بعض الأصدقاء. بمحبة، دعانى لتناول القهوة والدردشة قليلا قبل زيارة المتحف. لما يقرب من نصف ساعة تحدثنا عن هموم الحياة، ومرور الزمن، ومجىء الربيع مجددا. «لقد أصبحتُ عجوزا» تمتم بصوت حزين. ابتسمتُ، وأجبته أن الفنان لا يشيخ أبدا. ابتسم وواصلنا الثرثرة حول روتينه اليومى ومتحفه الجديد. وقال بلهجة علمية «هذا المتحف هو أحد مشاريعى المهمة. ويبدو أنه الأخير». بعد قليل، حان وقت الصعود إلى المتحف. أمسكت بيده وصعدنا ببطء سلم العمارة. «لا داعى لاستخدام المصعد، نحن فى الطابق الأول، فقط عشر سلالم» قالها بهجورى بحيويته المعتادة. حينما دخلت المتحف، شعرت للفور بأننى انتقلت إلى مكان جديد، وأن ضوضاء شوارع وسط البلد، خاصة فى وقت الظهيرة، لم يعد لها وجود. استقبلتنى لوحاته الزيتية الضخمة التى يتجاوز ارتفاعها المتر غالبا بألفة معتادة. الهدوء الشديد والنظام منحانى شعورا بأننى فى صومعة وليس مجرد متحف. «هذا المكان يعنى لى الكثير. إنه مثل خزانة ضخمة وضعت فيها أجمل ما أنجزته عبر سنوات إقامتى فى باريس». لقد تجاهلتنى وزارة الثقافة، كما تجاهلت فنانين آخرين، ولهذا قررت أن أقيم متحفى الخاص. «إننى أشجع الفنانين أن يفعلوا ذلك. إنه اتجاه شائع فى أوروبا الآن». قمت للتجول فى المتحف. استغرق منى الأمر نصف ساعة أخرى. المكان عبارة عن شقة فسيحة. ست قاعات متداخلة مفروشة بأرضية خشبية ساعدت على إضفاء روح المبانى القديمة. ممر واحد يربط ما بين قاعة الاستقبال والغرف. تتوزع فى القاعات بعض الأعمال النحتية التجريبية وبعض المقاعد الخشبية الصغيرة ذات طراز أفريقى. عند نهاية غرفة الاستقبال، يجد الزائر دفترا ضخما للرسوم محمولا على حامل، يحتوى على رسوم وسكتشات للفنان، مع بعض التعليقات المضحكة لزوار معارضه السابقة. تحتوى المجموعة المعروضة فى المتحف على أكثر من مائة لوحة، فى أحجام مختلفة، معظمها ذات قطع كبير. بعض هذه اللوحات تعود إلى الخمسينات والستينات. أنتجت جميعها فى مرسم الفنان فى باريس حيث أقام ما بين القاهرةوباريس طيلة لثلاثين عاما منذ سبعينات القرن الماضى. لم يكن التجول فى المتحف إذن رحلة عبر الزمن فحسب ولكن عبر الاتجاهات التشكيلية: تتنوع اللوحات ما بين فن البورترية، الرسوم الساخرة، الطبيعة الصامتة والموديل العارى. « لقد فكرت أنه من الحكمة أن أنقل هذه الأعمال إلى القاهرة، بلدى الأول. لقد اخترت هذا المكان لأنه فى قلب وسط المدينة، حيث يعيش الناس البسطاء الذين اعتدت أن أرسمهم. إنه أيضا قريب من منزلى». قال مبتسما. بدأ بهجورى، الذى يبلغ السابعة والثمانين عاما، مشواره التشكيلى كفنان كاريكاتير فى مجلة صباح الخير التى كانت تحظى بشعبية كبيرة فى الخمسينات. وتوقف عن رسم الكاريكاتير تماما بها عام 1975. برغم ذلك، لم يفقد فناننا روحه المرحة أبدا. تبدو روحه المحبة للحياة والناس فى كل لوحاته. بورترية صغير ساخر لجمال عبدالناصر، يخرج فيه لسانه ويشير بيده وكأنما يغيظ المتفرج، هو أحد البوتريهات الصغيرة لأصدقاء بهجورى، والشخصيات التى أحبها، تجتمع متلاصقة على حائط واحد وكأنها لوحة ضخمة من الموزاييك فى الغرفة الأخيرة للمتحف حيث يحب الفنان أن يقضى وقته على مكتب خشبى صغير، متأملا. البوتريهات الأخرى تحمل وجوها مبهجة لصلاح جاهين، سيد حجاب، غالى شكرى، بيكاسو وآخرين. بالرغم من عشقه للكاريكاتير، فهو غير موجود فى مقتنيات المتحف، لقد كانت رسومات الكاريكاتيرية مجرد بداية، ولم أهتم كثيرا بعرضها، ربما أفكر فى ذلك لاحقا». تخفى الابتسامة التى تعلو وجه بهجورى دوماً، وجعاً لا زال باقيا على ما يبدو. حينما تطرق بنا الحديث عن طفولته، وصفها بصوت حزين بأنها « كانت بائسة وحزينة». فى حجرة صغيرة يمين غرفة الاستقبال، توجد مكتبة صغيرة تحتوى على سكتشات الفنان وبعض رواياته وسيرته الذاتية. «توفت أمى وأنا فى سن الثالثة إثر حادث يتسم بالسخرية، فتزوج أبى من امرأة أخرى كانت تعاملنا بقسوة وتطردنا من البيت» قال بصوت منفعل. بالرغم من ذلك، منحته الحياة تعويضا كافيا. «كانت خالتى تأخذنى من يدى لنزور أقاربها فى شبرا ومناطق شعبية أخرى، بعيدا عن كآبة البيت. لم تخذلنى ابدا واعتنت بى كأننى طفلها الوحيد». ودون أن تتعمد جعلت حسه المرح بالحياة والناس ينمو مجددا. «بسبها فقط تعلمت محبة البسطاء من الناس والأماكن الشعبية». «كان بهجورى يحدثنى بشغف بينما يشير إلى لوحة ضخمة لامرأة بسيطة ترتدى جلبابا اسود وتضع طرحة سوداء على رأسها وتبتسم ابتسامة شاحبة. ويستطرد».. رسمت صورة خالتى فى أثناء إقامتى فى باريس، فى ذلك الوقت كنت أريد أن استحضر كل ذكرياتى من القاهرة، كنت أريد أن أبعث فيها الحياة مرة اخرى. لقد عشت فى فرنسا لمدة ثلاثين عاما. كانت موطنى الثانى. أحببتها وأحببت التجول فى مدنها ولكننى بالرغم من ذلك، كنت وحيدا». فى القاعة ذاتها هناك لوحتان أيضا تحملا صورة الأب. «كان والدى يعمل مدرسا للغة الإنجليزية فى مدارس خاصة. فبسبب ضعف خلقى فى البصر لم تكن لديه فرصة التدريس فى المدارس الأميرية، التى كانت أفضل فى ذلك الوقت من المدارس الخاصة. لازلت أتذكره حينما كان يجلس لساعات طويلة على المائدة مصححا للأوراق والكراسات فى صمت». تمثل النساء الموضوع المحبوب والشائع لدى بهجورى. إنهن يمنحن البهجة للمشاهد بشكل مجانى. تحتفى البورتريهات واللوحات بجسد المرأة فى أوضاع مغايرة منفردة أحيانا أو ضمن مشهد أليف، كلوحة ليلة الدخلة الضخمة التى تزين بشموخ أحد جدران المتحف ويظهر فيها الطقس الشعبى لنساء الأسرة وهن يتحلقن حول العروس. تظهر المرأة أيضا كموديل عار فى لوحات قليلة.. تبدو كدراسة للجسد الأنثوى أكثر من كونها مجرد عنصر مثير. «لأننى فقدت أمى فى سن مبكر للغاية، فقد ظللت أبحث عنها فى وجوه كل النساء اللاتى عرفتهن. لقد أحببت رسم النساء بسببها». لم يعتد المتابع لأعمال بهجورى على مشاهدة لوحات طبيعة صامتة للفنان. لكنها تبدو بشكل مغاير هنا. إحدى تلك اللوحات المبهجة بألوانها الطازجة تصور زجاجات وكؤوسا مختلفة الأشكال والأحجام تقف فى مجموعات أو بشكل ثنائى. من مسافة بعيدة قليلا تبدو الزجاجات وكأنها صور لأناس ذوى أحجام وأطوال مغايرة، ومزاج مغاير أيضا. أحدهما سعيد وآخر بائس وثالث غاضب وهكذا. وكأنما يريد الفنان أن يصنع مقاربة ما بين عوالم البشر والأشياء. أن نستوعب العالم بكل تفاصيله بمحبة. تخرج جورج بهجورى من كلية الفنون الجميلة بالزمالك عام 1955 وحصل على درجة الماجستير من أكاديمية الفنون الجميلة فى باريس عام 1970. حصل على جوائز عدة من أهمها الميدالية الفضية عن عمله «وجه من مصر» وعرضت أعماله فى اللوفر. بخلاف بيكار ويوسف كامل، معلما بهجورى، كان لبيكاسو تأثيرا كبيرا على الفنان. يبدو حضور بيكاسو فى المتحف ضروريا إذن. فى ركن خاص من غرفة الاستقبال يقف بيكاسو شامخا مستقبلا زوار المعرض وكأنه اعتراف بتأثيره الكبير عليه. «لم ألتق به ابدا طوال سنوات فى باريس فقد كان يقيم هو خارجها وكنت أؤجل لقاءنا لأسباب غير مفهومة، كان ذلك خطأ كبيرا.. لأن الحياة تنتهى فجأة! « قال بهجورى ببساطته المعهودة. تتكرر بورتريهات بيكاسو متبعا اتجاهات تشكيلية مختلفة تكعيبية أو سريالية. وفى حجرة المكتب هناك لوحتان بديعتان تصوران ثمار تفاح مرحة متناثرة، رسمها محاكاة لإحدى لوحات بيكاسو الشهيرة. على الرغم من توقف بهجورى عن رسم الكاريكاتير منذ فترة طويلة فقد احتفظ بعادة الجلوس على المقهى فى الأحياء الشعبية ورسم سكتشات سريعة للناس ومحادثة الغرباء وتبادل النكات معهم. شهد مقهى النصر فى شارع معروف صباحات عديدة للفنان وهو يستمتع برسم وجوه العابرين، وربما هذا هو سبب الألفة الشديدة التى يشعر بها المتلقى لأعماله. فى لوحات متحفه أيضا تظهر الأماكن الشعبية فى تجلى رائع ممزوجة بالبشر، كالحسين والسيدة، وطقوسهما الدينية الاحتفالية ومساجدهما، بينما يغيب الطقس الكنسى برغم كونه قبطيا. «لازلت احب الذهاب إلى مصر القديمة، أجلس على المقاهى وأستمتع بالإيقاع. لازالت تلك الأماكن مصدرا خاصا للبهجة».