يقولون إنّ كلّ جرّاح يشبه النسيج الذى يعمل فيه. سمعتُها من جرّاح عيون فى درس (رَمَد) وأنا بَعدُ طالبٌ بالفرقة الرابعة فى كلّيّتى. كان بالتأكيد يحاول إقناعَنا بأنّ أمامَنا واحدًا من المجموعة الأرقى من الجرّاحين الذين سنتعامل معهم منذ تلك اللحظة. بحسب كلامه، كان جرّاحو العيون دقيقين رقيقين، جرّاحو الأنف غارقين فيما يبعث على التقيُّؤ، جرّاحو العِظام قُساةً صخريين، جرّاحو النساء مرِنين إلى درجة الغموض وجرّاحو القولون والشرَج مولعين بالدهاليز المُظلِمةِ القذرة. أؤمن تمامًا بتلك المقولة. أبى كان قاسيًا كالنسيج الذى يعملُ فيه كذلك. اختار الصوّان منذُ شبابه واحترف النحت. كثيرٌ من أصدقائى الذين عرفوه قالوا إنه بدا لهم رجلاً طيّبًا بشوشا. نُقّاد الفنّ الذين اقتربوا منه لم يتركوا مناسبةً يذكرونه فيها إلاّ وذكروا معه ابتسامتَه ورحابة صدره وتواضُعَه، وكأنها كائناتٌ تعيش مرافقةً له لا صفاتٍ فيه! وحدى اختبرتُ قسوتَه. ربما لم يجد متنفَّسًا لها إلاّ معى أنا وحيدَه. سمَّوه ملِك الصّوّان لأنه كان يفضّل العمل مع ذلك الحجَر الصُّلب، وقالوا إنه كان ملِكًا طاغيةً مع حجارتِه لا يرحمها ولا يرِقُّ قلبُه لها وهو ينهالُ عليها بإزميله ومطرقتِه. وكنتُ أراهُ رقيقًا معها كجرّاحى العيون أو أرَقّ، ديمقراطيًّا يقبلُ رأيَ الحجَر ولا يسمعُ مشورتَه فقط بل يلمسُها ويشمُّها! نعم، يتحرّى العُروق التى تتخلل حجارتَه ليعمل دون أن يصطدمَ بها، ويختبرُ صلابة القِطع المختلفة بأن يَطرُقَها بأصابعه، بل ويتشمم كلَّ حجَرٍ قبلَ أن يُعمِلَ فيه مِشرَطَه فيَعرفُ كيف يبدأ معه ومن أين يبدأ! أمّا أنا فكنتُ حَجَرَه الذى لا يقوى على أن يُبدِيَ رأيًا ولا عِرقا. لم يَكُنْ يُعطينى الفرصةَ لأبدِيَ فى الحقيقة. يعاجلُنى بإزميلِه من اللحظةِ التى أفتحُ فيها عينيَّ فى الصباح، ولا يرحمُنى منه إلاّ أن يُغَيِّبَنى القدَرُ عن عينيه، ولَشَدَّ ما كنتُ أفرَحُ كلّما أنعم عليّ القدَرُ بغَيبةٍ كهذه. مازال فى وجهى أثرُ دَفعَته إيّاى حتى ارتطمَت جبهتى بالبابِ حين سخِرَ أطفالُ الشارعِ مِن سمنَتى فلَم أرُدّ عليهم، وأثَرُ مِشرَطِه -أعنى إزميلَه- فى خدّى الأيسَر حين طوَحَ يدَه فى وجهى وهو يحملُه غاضبًا من قولى له إنّ مدرّسى الفصل يقولون إنّ مهنتَه حرامٌ وإنّه أشَدُّ الناسِ عَذابًا يومَ القِيامة، وأثَرُ صوتِه وسكونِه فى رُوحى وهو يعلّقُ فى تَهكُّمٍ على إخفاقاتى ويتجاهلُ نجاحاتى فى إصرار. لكنّ الجُرحَ الأعمقَ فى رُوحى كان من عمل يدِهِ كذلك، لكن بشكلٍ غير مباشر. كانت نظرةُ أمّى هى السبب المباشِر فى هذا الجُرح. ليست نظرةَ أُمّى التى من لحمٍ ودَم. إنما أعنى أُمّى التى فى الحِجارة. تماثيلَ أمّى التى صنعَها أبى وحقّقت له مزيدًا من الشُّهرة. شيءٌ ما زَهَّدَنى فى فنّ هذا الرجُل منذُ صِباى. لا أعنى فنَّه هو بشكلٍ خاصّ، وإنما أعنى النحت والتماثيل وكلّ تلك الأشياء. ليس شيئًا متعلّقًا بالدّينِ أو الفقه, فقد تشكّلَ هذا الزهدُ وترعرعَ حتى قبل أن أصطدِم برأى الفقه فى عملِ أبى. ربّما – وأقولُ رُبّما لأننى لستُ متأكدًا تمامًا – هى نظرةُ أعيُن التماثيل، فقد كانت كراهيتى للنحت تتضاعف مع كل تمثالٍ لإنسانٍ أو كائنٍ حيٍّ بعينين. إنه ذلك الخواءُ المُطِلُّ من أعيُن التماثيل. العدَم. حين اصطحَبنى أبى إلى الاستوديو فى المرّةِ الأولى وأنا فى الرابعةِ أخافَنى هذا الخواء. أخافَنى حتى ارتعدتُ فلمّا حاولَ أن يُهَدهِدَنى – وتلك كانت المرّةَ الوحيدةَ التى أذكرُها له – بكيتُ وأدرتُ وجهى بعيدًا، فلمّا أدارَنى ونظرَ فى عينيّ أخافَنى أكثر، لأنّى رأيتُ فى عينيه مِثلَ ما رأيتُ فى أعيُن التماثيل. الخواء. العدَم. أشارَ إليّ بالكَفّ عن البُكاء وهو لا يحاولُ أن ينظُرَ فى عينيّ مُجَدَّدًا، وأخذنى من يدى وعادَ بى إلى البيت. ظللتُ بعدَها عشرةَ أعوامٍ لا أقوى على زيارة الاستوديو. وحين أعَدتُ الكرّةَ فى الرابعةَ عشرةَ ارتعدتُ كذلك لكننى لم أبكِ. كنتُ رابِطَ الجأشِ كمراهِقٍ طبيعيٍّ يكرهُ أباه، لكن رباطةَ جأشى هذه كانت مرهونةً بألاّ أنظُرَ أبدًا فى أعيُن التماثيل، ولا فى عينَى أبى. فى الأعوام العشرة التى تفصل الزيارتين كوّنتُ رأيًا احتفظتُ به لنفسى. من أجلِ هذه النظرةِ الخاويةِ تُعبَد التماثيل. عُبِدَت قديمًا ومازالت تُعبَد لِسواد عيون العدَم المُطِلِّ من عيونِها. الناسُ يهربون فيها من وجودهم بكلِّ مشاقِّه وأزماتِه وكوارثه. يهربون حيثُ لا مشاقَّ ولا أزماتٍ ولا كوارث. لا همومَ ولا امتحانات. لا شيء. لذلك توعّدَ مُدَرِّسُو الفصلِ أبى، ولذلك غضِبَ حتى كادَ يقتلُنى يومها بإزميلِه! يومًا ما، وكنتُ مازلتُ طالبَ طِبّ، قابلتُ فى مقهيً حقيرٍ زميلين لى، لم يكونا صديقين حميمين وإنما كنت أجَرّبُ صُحبتَهما وقد جذبَتنى غرابةُ حديثِهما. قابلَنا فى المقهى صديقٌ لهما عرّفاهُ إليّ بصفتِه طالبَ فلسفة. أخذوا يتحدثون طويلاً عن الفنّ. حين عرفَ صديقُهما من هو أبى احتفى بى. كان هذا وحدَه كافيًا لإقامة حاجزٍ بين رُوحَينا. لكنّنى أدليتُ بدَلوى فى الحديثِ الدائرِ بينهم رغم كلّ شيء، وتحدثتُ عن خبرتى مع أعيُن أصنامِ أبى. ضحك يومها زميلاى كثيرًا، وشردَ بعيدًا صديقُهما الفيلسوفُ ووضع سبابتَه على شفتيه المزمومَتين ثُمّ أخبرنا بأنّ (سارتر) كان يقولُ إنّ الفنانَ فى عملِه يُطارِد العدَم، وإنّ العدم هو جوهرُ الفنّ الأصيل. أعودُ إلى عينَى أمّي! لم يكتَفِ الرجُلُ بأن يزرعَ الخواءَ فى عينيها. قدَّمها للناظرين عارية. أُمّى أنا، التى كانت تتأذّى من اضطرارِها للانكشاف على طبيبٍ حين كانت تعانى ما يعانيه الفَانُون من الألَم، عاريةٌ أمام مَن هَبَّ ودَبّ. كلُّ نُقّاد الفنّ يعرفون أنها كانت موديلَه العاريَ الوحيد. تقاليدُه الريفيةُ منعَته من العارياتِ بأجرٍ، وكانت أمامَه دائمًا، فلماذا لا؟! أُمّى أنا التى لم أرَها تترك صلاةً منذُ وعيتُ عليها، عاريةٌ أمامَ الجميع. صنع لها تماثيلَ كثيرةً، وهى واقفةٌ شامخةً، وهى نائمةٌ مستسلمةً، وهى مُتّكِئةٌ شاردةً، وهى جالسةُ منهمكة. وكلُّها تماثيلُ عارية! بالطبعِ لم أجرُؤ على أن أُكَلِّمَه فى هذا الأمر. كان الردُّ المتوقَّعُ عنيفًا، والأثَرُ المحتمَلُ غائرا. أنا الآنَ جَرّاحٌ قديمٌ وأعرفُ عواقبَ كُلّ ضربة! كان عُريُها المُخَلَّدُ فى الحجارة عدَمًا آخَرَ مع العدَم المُطِلّ من عينيها، كما أشبعَ عدمَ عينيها غموضًا على غموضه. أهناك ما لم أعرِفهُ عنها؟ أكانت امرأةً أخرى غيرَ التى أشبَعَتنى حنانًا ورِفقًا وفَرِحَت لخطواتى الأولى حتى زغردَت، كما فرِحَت لخطواتى الأخيرةِ حتى دمعَت عيناها؟ وراءَ وقارِها شبَقٌ غفلتُ عنه؟ وراءَ تستُّرِها فُجورٌ لم أُدرِكهُ فى خِضَمِّ حياتيَ الأولي؟ أكانَ يَجرؤُ على تقديمِها هكذا لو لم تكن قدَّمَت نفسَها له ولغيرِه بنفسِ الطريقة؟ أينتقِمُ منها على هذا النحوِ وهى بريئةٌ غافلة؟! نزفتُ دمَ رُوحى على نظراتِها ولم يَخثُر الدّمُ ولم تندمل الجُروح. ظلّت الأسئلةُ تعذبنى وستظلّ، رغمَ ما فعلتُه لإخمادِها! كان بنيانُه القوىُّ الحَجَريُّ أولَ ما يُطالِعُه الناظرُ إليه. لم تفارقه قوّةُ الجسَد، حتى كتبَ نُقّادُ الفنّ إنّ قوة الجسد لا تقلُّ أهميةً للمَثّال عن الموهبة. وبذلك كان قادرًا على أن يظلَّ يصنع تماثيلَه وهو فى الثمانين، بعد موتِ أمّى بعشرة أعوام. كيف أكرهُه زيادة؟! اكتملت خُطّتى فى ذهنى أوّلاً ولم أُدخِل عليها أى تعديلٍ يُذكَر وهى تدخل حيّزَ التنفيذ. كانت خُطّةً بسيطةً تقليديّةً، لكنّها نجحَت بسهولةٍ وأبعَدَتنى عن الشكوك. كانت واسطتى فى تنفيذ الخطة مريضًا أجريتُ له جراحةً ناجحةً ويتمنى أن يَخدُمَنى من كلِّ قلبِه. أتانى فى نوبتجيةِ ليلٍ مطعونًا فى صدره وبطنه طعناتٍ أوشكَت أن تُودِيَ بحياتِه. خرجَ بعد أسبوعٍ من المستشفى قادرًا على أن يثأرَ لنفسِه. مازالت معى أرقامُ هواتفِه. اتصلتُ به وطلبتُ مقابلتَه فى أمرٍ عاجل. التقينا فى مقهيً بعيدٍ عن دائرتَى حياتَينا. وطلبتُ منه أن يقتُلَه. هكذا دون لَفٍّ أو دورَان. هكذا مرّةً واحدة! لم أُخبِره عمَّن يكون. أُخِذ الرجُل من طلبى الذى لم يتوقعه وسألنى لماذا أكرهُ هذا المقتولَ إلى هذا الحدّ. - «هو رجل فى الثمانين. أكثر رجل آذانى فى حياتى، وإن عاش أكثر من ذلك فسيستمر فى إيذائى»! أنا جرّاحٌ طيّب، أنقذُ حياة مرضاى. أستحقُّ أن أُخدَم بعيونهم. هذا ما قاله لى. كان قادرًا على تنفيذ ما طلبتُه منه، ولذا استعنتُ به، ولذا مرّ الأمرُ بسلام. اقتحمَ الاستوديو ذاتَ صباحٍ وكان العجوزُ قد باتَ به ومازال نائما. طعنه فى صدره وبطنه طعناتٍ لا تدَع لجرّاحٍ فرصةً لإنقاذه. وأخذ ما فى الاستوديو من المال. لم يكن العجوز يحتفظ بمالٍ يُذكَر فى الاستوديو. قال صديقى إنه لم يجد إلاّ ألف جنيهٍ أخذها لكَى يُبعِد الشبهاتِ عن هدف العملية. لم يشُكّ أحدُهم فى المسألة، وسارت جنازةُ العجوزِ كما يليقُ بفنّانٍ كبيرٍ أنجبَ جَرّاحًا ماهرا. لم تكَد تمُرّ الأيام الأربعون على العمليةِ حتى دخلتُ كعبتَه. لم أكن قد دخلتُها منذُ ما يربو على عشرين عاما. كانت الأمورُ كما عهدتُها فى ذلك الزمن البعيد. أدواتُه فى كلِّ مكان. صوتُ طرقاتِه على الحجَر يتردد صداه بعد أن مات. كان يحبُّ العمل فى الاستوديو المغلَق أكثر من الهواء الطلق بعكس معظم أبناء مهنته. ولذا كان العملُ مازال جاريًا فى الاستوديو على قدمٍ وساق. تمثالان آخَران لها. أحدُهما وهى جالسةٌ، ورأسها ملفوفٌ إلى الوراء وهى تنظرُ إلى مَن يواجهون ظهرَها. والثانى وهى نائمةٌ تمسكُ ثدييها بيديها. الإزميلُ فى يسراى والمطرقةُ فى يمناى. لم أُبقِ من التمثالين ما يصلُح أن يَدُلَّ على شيء. كان عملاً شاقًّا أنهكَنى إلى درجة الإعياء. فى نفس اللحظات التى كنتُ أنجزُ فيها هذه العملية، كان مريضى المخلص ورفاقُه يتسللون إلى ثلاثة معارض دائمةٍ تقتنى تماثيلَها التى أنجزها العجوز. فى غضون هذا اليوم لم يعُد لها تمثالٌ واحدٌ على الأرض. تكسّرت عارياتُها النائمةُ والجالسةُ والواقفةُ والمتّكئة، بعد أن أُخلِيَت منها المعارض. - «لن تُعبَدى فى الأرضِ بعد اليوم». فى ركنٍ قصىٍّ من الاستوديو وجدتُ تمثالاً من الواضح أنه أنجزه مؤخَّرًا، أو بالأحرى كان على وشكِ الانتهاءِ منه. كان تمثالاً لفلاّحٍ يرتدى جلبابًا مُشَمَّرًا إلى ما فوق ركبتيه، ذى لحيةٍ وشاربٍ كَثَّين، يرفع إلى مستوى رأسه طِفلَه الرضيع عاريًا، وجزءٌ من رأس الرضيع فى فمِ الفلاّح المجنون. كان يأكلُ ابنَه كما يفعلُ (زُحَل) فى لوحاتِ (جويا) وغيرِه التى كنتُ أشاهدُها فى الكتالوجات التى يحتفظُ بها العجوز فى البيت والاستوديو. لكنّه كما قُلتُ لم يكن قد انتهى بعدَ من التمثال. كان مكانُ العينين غير منحوت. مجرد كتلةٍ من الصوّان متصلةٍ بالجبهة دون تضاريس. كان باعثًا على الحُزن. لم أشعر بالحُزن فى حياتى كما شعرتُ به وأنا أشاهدُ هذا التمثال. حتى يوم موتِ أمّى. لكنّه كان حزنًا بلا دموع. ملأ وجودى بكاملِه ولم يترُك لى نافذةً على العدَم. تحاملتُ على رُكبتيَّ اللتين خانتانى، وربّتُّ على كتف الفلاّح الأعمى. وولّيتُ جِهةَ باب الاستوديو.